ينظر النظام بخليط من العداء والازدراء للإعلام الخاص المكتوب والمرئى «لا أقول الإعلام المستقل لأن فى هذا التعميم كثير من المبالغة»، ولا يرتاح أقطابه ومؤسساته إلا إلى الإعلام الحكومى «لا أقول الإعلام القومى لأنه لا يوجد فى مصر إعلام قومى».
عندما عقد رئيس الوزراء اجتماعه الأخير مع رؤساء تحرير الصحف، اقتصر الاجتماع على صحف الحكومة التى عادة ما تنال القدر الأكبر من الدلال، ليس فقط من حيث التمييز فى الحصول على المعلومات، وإنما أيضا فى التغاضى عن تحصيل الضرائب التى تقدر الآن بـ5.3 مليار جنيه رغم أن هذه الصحف تمارس نشاطات ربحية عديدة لا تتعلق بالإعلام.. فى هذا الاجتماع قال الدكتور نظيف إن «بعض الصحف المستقلة والفضائيات توجد حالة نفسية غير إيجابية وكأن مصر رايحة فى داهية».. الواقع أن هذا ليس أول تصريح لرئيس الوزراء بالمعنى ذاته، ولا هو التصريح الوحيد لمسئول مرموق فى النظام..
المهندس أحمد عز نجم الحزب الحاكم له تصريحات عديدة تكاد تكون مطابقة.. فى آخر هذه التصريحات شن هجوما عنيفا على برامج المساء التليفزيونية وعلى الصحف الخاصة التى اتهمها بالسعى إلى الإثارة، وبأنها تشوش على إنجازات الحزب الوطنى، وتخلق حالة من الاكتئاب والإحباط، ولا تنظر إلا لنصف الكوب الفارغ.. وياما سمعنا من مسئولين آخرين تهمتهم المفضلة أن الإعلام الخاص «يسىء إلى سمعة مصر فى الخارج».
لو كان الأمر بين النظام لوضع قنابل ناسفة فى استوديوهات التليفزيون الخاصة واحدا واحدا وفى مكاتب الصحف الخاصة جميعا، ولكنه وهو يتلمظ غيظا منها ويتربص بها ويناور ويداور كتم أنفاسها فهو فى الوقت نفسه لا يستطيع أن يفتك بها ولا يريد.. لا يستطيع لأن التطورات العالمية التى تطلبت انفتاحا فى الاقتصاد استدعت انفتاحا فى الإعلام، كما أن كفاح الإعلاميين والمثقفين والمجتمع المدنى بكامله حقق تقدما كبيرا فى مجال حرية التعبير بوجه خاص..
أضف إلى ذلك أن التكنولوجيا أتاحت للإعلام أن يعبر الحدود ويسقط حواجز الرقابة، وأتاحت تعددا هائلا لقنوات التليفزيون نشأت نتيجة له منافسة شرسة معيارها الأول هو الحرية.. وساند ذلك كله طفرة فى مجال الاتصالات، أبرز مظاهرها شبكة الإنترنت العنكبوتية.. فى الوقت الذى لا يستطيع فيه النظام التخلص من الإعلام الخاص، فهو لا يريد ذلك أيضا.. لا يريد لأن الإعلام الخاص يضيف رتوشا ديمقراطية على صورته فى الخارج، ويخفف من احتجاجات الحكومات والمنظمات الغربية ذات الوزن والصوت العالى، كما أن الإعلام الخاص يخفف أيضا من ضغوط الشعب على النظام عندما يقوم بالدور الذى وصفه الكاتب الكبير الراحل صلاح الدين حافظ بدور «منظم البخار» الذى يتولى تسريب البخار الزائد حتى لا ينفجر الإناء بما فيه.
يدرك الكل أن الإناء أوشك الآن أن ينفجر بما فيه.. لكن النظام يصم آذانه وإن لم يغلق عيونه عن دبة أية نملة فى البلد.. ويبدو أنه خلص إلى أن السياسة المثلى أمام ذلك هى مزيد من القمع.. أقول ذلك مستندا إلى خطاب الرئيس فى عيد العمال الذى احتشد بالتهديد والوعيد للمعارضة واتهامها بالمزايدة وإثارة الانفلات والفوضى والهرولة غير المحسوبة النتائج..
ستبدأ هجمة شرسة إذن ضد قوى التغيير فى البلد، ولن ينجو الإعلام الخاص من هذه الهجمة باعتباره متهما من جانب النظام بالتحريض والإثارة، ولكن المرجح أن يتم ذلك كله بقدر كبير من المراوغة التى تتيح للنظام أن يتجمل قدر ما يمكنه بحيث لا يحرج الإدارة الأمريكية التى تود أن تكتفى ببيانات عتاب وغضب منضبط دون أن تمارس ضغطا حقيقيا.. تلك هى الخدعة الجديدة، التى اتضحت فى أحلى صورها فى تمرير التمديد الأخير لقانون الطوارئ بدعوى أنه سيطبق فى مجالى الإرهاب والمخدرات وحدهما، وبذلك لن يضيق على الحريات العامة والخاصة.
على نفس النسق سيمرر مجلس الشعب قانونين آخرين بالغى الخطورة فى مجال الإعلام قبل انفضاضه.. أولهما قانون إنشاء المجلس القومى للبث المسموع والمرئى الذى سيضع قيودا ثقيلة على التعبير من أى وسيلة للبحث حتى لو كانت من خلال الإنترنت، بل وأيضا من خلال الهواتف المحمولة، كما أنه يمنع العمل بالإعلام إلا لمن يحصل على تصريح مكتوب من المجلس المقترح.. أما القانون الثانى فهو قانون نقابة الإذاعيين التى يريدها هؤلاء نقابة مهنية فى حين يحاول نواب الحزب الوطنى تحويل النقابة إلى مجرد نقابة عمالية محدودة الصلاحيات.. وكما هو الحال بالنسبة لمد قانون الطوارئ تماما، فإن النظام يقدم مشروعى هذين القانونين باعتبار أنهما سيتيحان حرية، أوسع لوسائل الإعلام وحصانة أكبر للعاملين فيها.
هذان القانونان هما رأس الحربة التى ستطعن الإعلام المسموع والمرئى، الخاص منه على وجه الدقة.. ولن ينجو الإعلام الخاص المكتوب من إجراءات شبيهة وإن كان من الصعب تمريرها بعيدا عن نقابة الصحفيين.. فى كل الأحوال فإن القمع لا يتم بالقانون وحده.. ربما كان أكبر أثرا إذا تم بوسائل ناعمة يعرف الإعلاميون الكثير منها..
هناك الضغط على أصحاب المؤسسات الإعلامية بالمصالح، وهناك الإرهاب المعنوى بمكالمات تليفونية من مسئول نافذ أو ضابط كبير بأمن الدولة، وهناك جرجرة الصحفيين إلى المحاكم وأحكام الغرامات المالية، وهناك حجب الإعلانات الحكومية، وهناك التضييق على حركة الصحفيين ومصادرة معداتهم، وهناك جزرة الإغراءات مع العصا، وهناك ما هو أخطر من ذلك كله، الرقابة الذاتية التى عادة ما يمارسها الإعلاميون بقدر أكبر من التزمت كلما شاع القمع فى البيئة الحاضنة.. وسوف يذكى النيران فى هذه البيئة مزيد من التصريحات لكبار المسئولين فى النظام تتهم الإعلام الخاص بأنه يحرص على الانفلات ولا يرى إلا نصف الكوب الفارغ.
لن نجادل هنا فيما إذا كان الكوب نصف فارغ.. الأرجح أنه فارغ تماما، هذا إذا كان هناك كوب من أساسه.. الناس جميعا يدركون ذلك، ويعرفون مدى البلاء الذى يعيشونه.. وواجب الإعلام مرئيا ومكتوبا أن يعمل معهم على إزاحة هذا البلاء..
لا يطالب أحد الإعلام بأن ينضم إلى صفوف المعارضة، وإن كان من حقهم أن يعارض لو كان يمثل أحزابا وقوى سياسية معارضة.. المطلوب من الإعلام ألا يكف عن نشر الحقائق مهما كانت موجعة، وأن يعالجها بكل موضوعية وشفافية، وأن يناقشها بالرأى والرأى الآخر، وألا يتهيب من إبداء الرأى فيها..
ستلقى هذه المهمة على كاهل الإعلام الخاص بالضرورة مادامت الصحافة الحكومية تغطى على آثار النظام (عندما نشرت صحيفة حكومية كبرى ما دار فى جلسة مناقشة المظاهرات لم تشر بكلمة إلى نائب الحزب الوطنى الذى دعا إلى ضرب المتظاهرين بالرصاص)، وما دام التليفزيون الحكومى يحجب صوت المعارضين «إبراهيم عيسى مجرد مثال، هو والإخوان المسلمون جميعا» وصوت دعاة لا شأن لهم بالسياسة «عمرو خالد»، بل وصوت إصلاحيين فى الحزب الحاكم ذاته «ألغى حديث فى التليفزيون المصرى كان مقررا إجراؤه مع د.حسام بدراوى وهو فى طريقه إلى الاستوديو».
فى الأسابيع الأخيرة كان مجلس الشعب مسرحا لمشهدين شديدى التناقض.. المشهد الأول كان تحت القبة حيث تحول البهو الفرعونى العريق إلى مطعم تقام فيه ولائم يأتى لها نواب الأرياف بالمحمر والمشمر ونواب السواحل بالجمبرى والاستاكوزا، أما المشهد الثانى فكان على رصيف المجلس حيث مئات العمال المضطهدين المعتصمين يأكلون فى اليوم وجبة واحدة بالكاد ويتلقون تبرعات من المارة.. الدكتور نظيف والمهندس عز يريدان من الإعلام الخاص، أن يصور البلد وكأنها بهو فرعونى عامر بالخيرات.. لكن المسألة ليست فيما يصوره الإعلام.. المأساة أساسا ليست فى الصورة وإنما فى الواقع.. والواقع أن البلد كله تحول إلى رصيف للمظاليم، وأنه «رايح فى داهية» بسبب الحزب وبسبب الوزراء، لا بسبب الإعلام.