حسن العشرة بين الزوجين
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالعلاقة بين الزوجين أمرٌ مهمٌّ، فإنَّ استقامتها سببٌ لاستقامة الحال وعمارةِ المنزل، وانتظامِ شأن الولد وحياة الأولاد بين الأبوين المتعاونين في سبيل إصلاح الأولاد وتربيتهم التربية الصالحة، والله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وضع للزوجين نظامًا إنْ هما سارا عليه فإنَّ ذلك سبب لسعادتهما واجتماعهما وتآلف قلوبهما، فقوله سبحانه: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (سورة البقرة: ٢٢٨)، يبين أن للمرأة حقًّا كما عليها حق، وللرجل حقًّا على امرأته كما لها عليه حق، فله عليها حق، ولها عليه حق، فإذا قام الزوجُ بالواجب عليه وقامت المرأة المسلمة بالحق الواجب عليها وتعاون الجميع على ذلك فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةً طيبة سعيدة.
وصية النبي بالنساء:
نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبَ الأزواج في القيام بحق النساء، ووصيتَهم بذلك، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ) استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا (، ويقول صلى الله عليه وسلم: ) المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتَها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج (، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن المرأة وضعفِها وعجزها، وأنها خُلقت من ضلع أعوج، وأنَّ الرجلَ يجب أن يكون أقوى منها تحمّلا، وأشدَّ منها صبرًا، لا يعاتِب على كلّ قليل وكثير، ولا يأمَل الكمالَ المطلق، وإنما يقبل منها ما جاء، ويتحمَّل بعضَ ما فات، فبذا تستقيم الحياة، وفي لفظ: ) ولن تستقيم لك على طريقة (، فهي لا تستقيم لك على كلّ ما تريد، لكن الزوج هو أقوى وأشد تحملا وصبرًا وعلاجًا للمشاكل.
كما بين صلى الله عليه وسلم أن المرأة المؤمنة قد يكون منها شيء من الأخلاق التي لا يرضاها الزوج، وهي أخلاق لا تتنافى مع الشرف والفضل والفضيلة، ولكن طباع بعض الناس، فيقول صلى الله عليه وسلم: ) لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر (، فالمرأة المؤمنة قد تكره منها شيئًا من الطباع، ولكن في مقابل ذلك ترضى بأخلاق حسنة وسيرة طيبة، فليكن ما لديها من خلق كريم وعمل طيب مقابلَ ما قد ترى منها من بعض المخالفات.
ضرورة أداء الحقوق والواجبات والتمسك بآداب القرآن:
بتدبّر القرآن والسنة يعلم كل من الزوجين ما له وما عليه، وإن قيامَ كلٍّ منهما بما يجب عليه هو الذي يحقّق السعادة، وهو الذي يرسي دعائمَ الاستقرار في المنزل، وهو الذي يجعل الأبوين يقومان بالواجب الْمُلقى عليهما نحوَ أولادهما، فينشأ الولدُ وتنشأ البنتُ نشأةً صالحة بين أبوين مسلمين يحترم بعضهم بعضًا، فتنشأ البنت تحترم زوجَها، وينشأ الابن يحترم أمَّه وأباه، وإنما يُصاب النشء بالعُقد النفسية عندما يشاهد الأطفال الأمَّ والأب وما بينهما من شِجار ونزاع وتبادلٍ للتّهم وتراشقٍ بالكلمات البذيئة التي لا خير فيها، ولا تحقِّق خيرًا، وإنما تنشر سوءًا وبلاء، ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ (سورة الإسراء: ٥٣).
فالتعامل بالأخلاق الكريمة بين الزوجين، واحترامُ كلٍّ منهما لصاحبه، وقيامُ كلّ منهما بالواجب عليه، هو الأمر المطلوب من المسلمين، هذا الذي دعا إليه القرآن، وأرشدت إليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تأكيد الشريعة على حسن العشرة بين الزوجين:
العلاقة بين الزوجين علاقة في غاية الأهمية، عُني الإسلام بتوثيقها، وعمل على بقائها واستمرارها، وأكد على ضرورة المحافظةِ على هذه الرابطة، وحضَّ الزوجين على الحرص على إنمائها وديمومتها.
ولذلك نجد أن حسن العشرة بين الزوجين من أهم الركائز التي يؤكد عليها الدين الحنيف، وينتج عنها عيش الأسرة في ود وسلام وصفاء ووئام، قال تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (سورة النساء: ١٩)، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ) خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي (، وقال صلى الله عليه وسلم: ) أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله (.
تكريم الإسلام للمرأة له صور:
مما لا شك فيه أن الإسلام شرع مركز المرأة في الحياة، وجعل لها من الحقوق والواجبات ما لم تجعله شريعة سابقة، في حين نجد في بعض الأديان والعقائد من اعتبر المرأة حيوانًا لا روح له، أو أنها خلقت لخدمة الرجل، ومنهم من جعل حياتها مرتبطة بحياة الرجل، فإذا مات الرجل أصبحت المرأة لا حق لها في الحياة فيحكم عليها بالموت معه، ثم جاءت شريعة الإسلام السمحة، لتجعل لها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل، فأعطاها الإسلام حرية التصرف في أموالها، كما أعطاها حرية اختيار زوجها بل جعلها الله تعالى آية من آياته، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (سورة الروم: ٢١).
فالمرأة خلقت من نفس الرجل لا من طينة أخرى، فهي ليست حيوانًا بل هي من الرجل، والرجل منها، وقد خلقها الله لتكون زوجة لا خادمة فقط، زوجة يسكن إليها الرجل، وتسكن إليه، والسكن أمر نفساني وسر وجداني يجد فيه المرء سعادته وراحته وأمنه وطمأنينته.
وبهذا فقد قرر الإسلام ما بين الزوج والزوجة من أصول التعاون على رسالة الحياة الزوجية، وجعل حقوقا مشتركة بين الزوجين، وهذا ما تطرقنا إليه في الخطبة الماضية، وحقوقًا للزوج على زوجته وهكذا نتركه إلى الخطبة القادمة إن شاء الله، وجعل حقوقا للزوجة على زوجها نذكرها في هذه الخطبة .
ولتكتمل الصورة، ويعرف كل من الزوجين ما عليه من حقوق وما له من واجبات، نعرض فيما يلي الحقوق الزوجية، بادئين بالحقوق المشتركة بين الزوجين، ثم حقوق كل من الزوج والزوجة على حدة.
الحقوق الزوجية المشتركة:
الحقوق المشتركة هي حقوق تجب لكل واحد من الزوجين تجاه الآخر، وليست خاصة بأحدهما، نلخصها فيما يلي:
أولا: حق المعاشرة بالمعروف:
ومعنى هذا أن يعاشر كل من الزوجين صاحبه معاشرة حسنة، فلا يؤذيه بالفعل ولا بالقول ولا بما يستنكر شرعًا ولا عرفًا ولا مروءة، وإنما الصبر والرحمة واللطف والرفق، وأن يعامل كل واحد منهما الآخر كما يحب هو أن يعامل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُسَنُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ، وَاحْتِمَال أَذَاهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ دِيَانَةً لا قَضَاءً.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا - أَيِ الْعِشْرَةُ بِالْمَعْرُوفِ - وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ وَلا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ عَادَتِهِمْ، فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ.
ثانيًا: المناصحة بينهما:
فإن للتناصح دورًا كبيرًا في الارتقاء بمستوى الأسرة، وإنارة لدرب السلامة من التردي في الخطأ، غير أن كثيرًا من الأزواج يرى أنه من غير الطبيعي أن تؤدي المرأة دورها في نصيحة زوجها، وأن من السائغ أن تكون النصيحة من جانبه هو فقط، ويصل الظن ببعض الأزواج إلى أن قيامها بالنصيحة نوع من التطاول على حقه، وخَدش لكرامته ولقوامة الزوج، وهذا خطأ لأن التناصح مأمور به شرعًا، وحق للمسلم على المسلم، وحق مشترك بين الزوجين وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ) الدين النصيحة (.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في هذا، وهو حق لكل مسلم على أخيه المسلم، ومن واجب كلا الزوجين أن يأمر صاحبه بالمعروف وينهاه عن المنكر.
ثالثًا: الشورى:
بمعنى أن يكون التشاور وتداول الرأي قائمًا بين الزوجين فيما يتعلق بشؤون البيت، وتدبير أمر الأسرة وتربية الأولاد، وليس من الحكمة في شيء أن يستبدّ الرجل برأيه ولا يلتفت إلى مشورة امرأته، لا لشيء إلا لأنها امرأة، ومشورتها قدح لقوامته عليها في نظره، فكم من امرأة أدلت برأي أرجح من رأي رجل، وكم من امرأة أشارت برأي صار له أكبر الأثر في استقامة الأمور وإصلاح الأحوال، وخير من يقتدى به في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن دخل على أم سلمة رضي الله عنها غاضبًا مما فعل أصحابه يوم الحديبية حيث أمرهم بالحلق والتحلل فكأنهم تحرجوا وتباطئوا، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يحلق هو أمامهم حتى يحلقوا، فأخذ الرسول بمشورتها، فما كان إلا أن بادروا إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم.