أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حافلة بذكر المرأة التقيّة التي تنأى بنفسها عن التبذُُّل ، وتلتزم بأمر الله ورسوله وتنتهي عما يُغضب الله تعالى ، وتحاول أن تتمثَّل السمات الخيّرة ، وتقواها ينعكس على البيت رحمة وسعادة ، وعلى المجتمع صفاءً ونقاءً ، وعلى الحياة صلاحاً وإصلاحاً . . ألمْ يقل الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ؟))(1)
ألمْ يوصِ الزوج المؤمن بامرأته المؤمنة خيراً (( لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر )) (2) .
وفي حجة الوداع قال : (( ألا واستوصوا بالنساء خيراً . . )) (3) .
وها أنا أقدّم صوراً من النساء التقيات في أحاديثه صلى الله عليه وسلم .
ففي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في النفر الثلاثة الذين باتوا في الغار ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فتوسّلوا إلى الله تعالى أن ينجّيهم فذكروا صالح أعمالهم ، يقول الثاني منهم : (( اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ الناس إليَّ ـ وفي رواية ـ كنت أحبُّها كأشد ما يحب الرجال النساء ، فأردتُها على نفسها ، فامتنعت مني حتي ألَمَّت بها سَنةُ من السنين ، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومئة دينار على أن تُخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرتُ عليها ـ وفي رواية ـ فلما قعدت بين رجليها قالت : اتّق الله ، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه . . . )) (4) ، فقد كانت تقيّة لم تمكنه من نفسها ابتداءً فلما ضعفت لفقرها ـ وكاد الفقر أن يكون كفراً ـ اضطرت إلى ما طلب ، وذكّرَته بالله وتقواه ، وهزت فيه المشاعر الإيمانية وأن عليه ـ إن أرادها ـ أن يتزوجها حلالاً ولا يقع عليها زنا ، فارعوى وتاب إلى الله تعالى فكان لها الفضل الأكبر عليه ـ حقيقة ـ في انفراج شيء من الصخرة يوم سدَّت باب الغار .
وهذه المرأة الجُهَنيّةُ زلَّتْ فوقعت في الزنا وهي مُحصنةٌ ثم ذكرت الله فتابت وأنابت وجاءت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تريد أن يرجمها فيطهّرها . . جاءته حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله إني أصبتُ حدّاً ، فأَقِمْه عليَّ ، فدعا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليَّها فقال : (( أحسِنْ إليها ، فإذا وضعَتْ فأتني )) ، ففعل فأمر بها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَشُدَّتْ عليها ثيابُها ، ثم أُمِرَ بها فَرُجِمت ، ثم صلّى عليها ، فقال له عمر : تصلّي عليها يا رسول الله وقد زنتْ؟! قال : (( لقد تابت توبةً ، لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجَدْتَ أفضلَ من أن جادت بنفسها لله عزّ وجلَّ ؟)) (5) .
دفعةٌ إيمانيّةُ قويّةُ دفعتها إلى التطهُّر ، واختيار الآجلة على العاجلة ، ولو لم تكن ذات إيمان قويّ ما آثرت الموت رجماً ، ولعلَّ قائلاً يقول : فلماذا زنت وهل يفعل ذلك إلا ضعيفُ الإيمان مهزوزُه ؟! ، فأقول : قد يضعف الإنسان فيقعُ في المحظور ، لأنه خُلِقَ من ضعف ، ويَزِلُّ ، لأنه خُلق من عَجَل ، ويضل لحظةً لأنه ناقص ، لكنَّ بِذرة الإيمان حين تنمو في قلبه شجرةً باسقةً وارفةََ الظلال تُظهر معدِنه الأصيلَ ، ويقينَه المتينَ ، وهذا ما جعلها تسرع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسأله أن يطهِّرها ، وجادت بروحها ابتغاء مرضاة الله ورحمته وغفرانه .
وما أروع ما قالته السيدة هاجر رضي الله عنها زوج إبراهيم وأم إسماعيل عليهما السلام حين تبعت زوجها ـ بعد أن وضعها وابنها في وادٍ غير ذي زرع ومضى ـ تكرر على مسامعه (( يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيئ ؟)) وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : له : (( آلله أمرك بهذا ؟ )) قال : (( نعم )) . . قالت [ والإيمان رفيقها ، والتسليم لقضاء الله غايتُها ، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى رائدها ] : (( إذاً لا يضيِّعنا )) (6) نعم ، إنِّ الله لا يضيِّع عباده الصالحين . ألم يعوّض الله سبحانه وتعالى الرجل وزوجته في سورة الكهف بخير ممن قُتِل ( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) ) ؟ !! (7) .
ألم يحفظ الله تعالى صاحب الكنز ـ الرجل الصالح ـ في ولديه حين أمر صاحبَ موسى أن يبني الجدار من جديد ، فيثبته حتى يكبر ولداه فيأخذا كنز والدهما ؟
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) (8) .
ومن بعض سمات المرأة التقيّة التي ذكرت في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها :
1ـ تصبر على لأواء الدنيا وما ابتلاها به الله فيها لتدخل جنة عرضها السموات والأرض .
فقد روى عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلتُ بلى ، قال : هذه المرأة السوداء أتت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : إني أُصرَع(9) ، وإني أتكشَّفُ ، فادع اللهَ تعالى لي (10) ، قال : (( إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة ، وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يعافيكِ )) فقالت : أصبرُ . . . فقالت : إني أتكشّفُ ، فادع الله أن لا أتكشَّف ، فدعا لها(11) .
رضيتْ هذه المرأة المؤمنة التقيّة ببلاءٍ يصاحبها حياتَها الفانية على أنّ لها الجنة . . وقد ربح البيع ، فكانت من أهل الجنة ، ولكنّها أَنِفَتْ ـ وهكذا التقوى ـ أن تتكشّف فيرى الناس من عورتها ما لا يليق بالمرأة المسلمة المحتشمة التقيّة ، فماذا نقول لهؤلاء الكاسيات العاريات اللواتي يتفنَّنَّ في إبداء محاسنهنّ ويجهدن في خلع برقع الحياء ، وفي التعرّي ، إلا من ورقة التوت ، إن كان هناك ورق التوت . .
2ـ وهذه أم سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسمعه يقول : (( مَن جرََّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )) (12) فقالت أم سلمة : فكيف تصنع النساء بذيولهنَّ ؟ قال : (( يرخين شبراً )) ، فقالت : إذاً تنكشف أقدامُهُنّ . قال : (( فيرخينه ذراعاً ولا يزدن )) (13) ... لله درّك يا أمَّ المؤمنين !! لله درّك يا أم سلمة ، لستِ من أهل الخيلاء ولا التكبُّر ، فلا يجوز إسبال الثوب إلى الأرض . . ولكنَّ نساء المسلمين حَيِِيات عفيفات ، طاهرات شريفات ، لا ينبغي أن تُرى أقدامُهُن ، وثيابهن لها ذيول يجررنها على الأرض وراءهن ، فلا يرى الرجال منها شيئاً . . ماذا يصنعن بعد أن سمعن حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ !! تسألين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عسى أن يجد حلاًّ لذلك ، فيسمح لَكُنَّ أن ترخين الذيل شبراً ، فترين هذا قصيراً ، وتخشين ظهور باطن القدمين ، فيقول لكي أَرْخي ذيلك ذراعاً ولا تزيدي . . . لكنَّ النساء في عصرنا ، عصرِ المدنيّة والحضارة !! يرخين الذيل إلى (( أعلى )) أقصى ما يستطعن ، خوفاً عليه من البلل وأنْ يغبَرَّ ، لو استطعن لخلعنه ، أسوة بالكوافر العواهر ، وتتعجبين !! . . فيَجِدْنَ ألفَ مبرِّر للتعرِّي والتفسُّخ ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ورجالهُنَّ ليس فيهم من الرجولة إلا الاسم ، يمشون إلى جانبهن ، يحملون قرون الاستشعار ، ولا يبالون . فقد ذهب الحياء .
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العودُ ما بقيَ اللـحاءُ
فلا والله مـا في العيش خيـر ولا الدنيا ، إذا ذهب الحياءُ
3ـ وتلتزم المرأة بخلق الإسلام ، والمجالس بالأمانات ، وأعراض النساء أعراض الرجال .
هذا ابن مسعود رضي الله عنه يروي عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا تباشر المرأةُ المرأةَ ، فتصفَها لزوجها ، كأنه ينظر إليها )) (14) فإنْ فعلت فإنه هَتْكٌ لأعراض الناس ، وتحريكٌ لكوامن الشهوة عند الرجال ، وفضحٌ لأسرار البيوت إلا إن كانت تريد أن تخطب فتاةً له ، وهي لن تفعل فالضَّرَّة مُرّة . ولن تفعل الأختُ إن كانت مؤمنة تقيّة لأنها تعلم الحياة ديناً ووفاءً ، فقد توصَفُ هي الأخرى من حيث لا تدري .
4ـ وقد حدّد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغبة الرجال في زواجهم من النساء في أربعة أنواع فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( تُنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك )) (15) .
ولا أعلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا على أحد إلا في مواطن معدودة ، منها ما ورد في هذا الحديث ، وكأنه عليه الصلاة والسلام يدعو على مَنْ يختار أحد الأنواع الثلاثة الأولى دون المرأة ذات الدين أن لا يوفِّقه الله في حياته ، فينقلب كل ما يفعله هباءً لا قيمة له ، فصار كل ما يلمسه تراباً ، ولعله يدعو عليه بالفقر ـ والله أعلم ـ .
فالمرأة ذات الدين تعرف حقَّ زوجها عليها فبِيَدِه جنتُها لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيُّما امرأة ماتت ، وزوجها عنها راض دخلت الجنّة )) (16) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )) (17) .
ولأنَّ المرأة الصالحة تعرف حقَّ زوجها عليها فهي تعرف أن مخالفتها إياه ينتج عنه إثم كبير ، فقد قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه (18) فلم تأته ، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) (19) .
ومن حقه عليها أن لا تؤدي النافلة إلا بإذنه لقول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لا يحلُّ لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه (20) ولا تأذن في بيته إلا بإذنه )) (21) .
5ـ وترغب أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما أن تبرَّ والدتَها الكافرة ، ولكن لا بدَّ من استئذان النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، خوفَ أن يكون استقبالها لأمها وهي كافرة غير مقبول ، فيجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تقول له : قدِمَت عليَّ أمي وهي راغبةٌ ، أفأصِلُ أمي ؟ قائلاً : (( نعم صِلي أمك )) (22) فَصِلةُ الأرحام أصْلٌ في المجتمع الإسلامي ، يدعو إليه الإسلام ، ويحضُّ عليه ، ويرفع الله صاحبه في عليين ، وهذا ما يصبو إليه كل مسلم تقي .
6ـ وقد عرفت المسلمات الأوائل أنَّ الصلاة صلة بين العبد وربه ، أفلح فيها الخاشعون ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) (23) .
فكنَّ يقمن الليالي متبتلات خاشعات ، وعرفن أنّ من أفضل الزاد إلى الآخرة ، والزاد الذي يعين على إيصال الدعوة إلى الناس هو الصلاة التي تهب صاحبها قوة وعزيمة على مقابلة الصعاب وتخطّي الشدائد ، وأن قيام الليل من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى حيث يقول جلَّ وعلا مخاطباً الداعية الأول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) (24) ويمدح من قام الليل : ( كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) (25) .
وقد روى أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل المسجد ، فإذا حبل مشدود بين ساريتين من سواري المسجد فقال : (( ما هذا الحبلُ )) قالوا : هذا حبلٌ لزينب (26) إذا فترت تعلقَتْ به ، قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :(( حُلّوه ، ليُصَلِّ أحدُكم نشاطَهُ ، فإذا فتر فليقعد ))(27) إذاً فقد كانت النساء المؤمنات يشددن على أنفسهن ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وقد أمرهنّ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكلفن أنفسهن طاقتهن ، فخير العبادة ما دام وإن قلَّ ، ونحن نعلم أن نساء العصر ملأن أوقاتهن ليلاً ونهاراً بأمور الدنيا ، فلا أقلَّ أن يركعن ركعتين في جوف الليل يغالبن فيها الشيطان ، فخير الأمور أوسطها . و (( هلك المتنطعون )) (28) قالها الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثاً .
7ـ ومن الالتزام الرائع بهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعلته كلٌّ من أم حبيبةََ وزينبَ زوجتي النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتثالاً لأمر النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين مات أبو سفيان ابن حرب أبو أم حبيبة ، وعبدالله أخو زينب رضي الله عنهم جميعاً ، فماذا فعلت المرأتان العظيمتان بعد موت قريب كلَّ منهما بثلاثة أيام ؟! تقول كلٌّ منهما بعد أن دعت بالطيب ، ومَسَّتْ منه : أما واللهِ ، وما لي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول من على المنبر : (( لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )) (29) .
هكذا يكون الالتزام ، وهكذا تكون التقوى .