فماذا تقول باللواتي يسرفن ، ويكثرن الطلب ، ويحملن أزواجهن ما لهم به طاقة ، وما ليس لهم به طاقة .
ماذا تقول باللواتي يشتكين من قلة أثوابهن وخزائنُهن ملأى بالجديد الغالي ، ولا يعبأن أيأتيهن ما يطلبن من حلال أو حرام ، ويكثرن التزاور مفتخرات بما يلبسن ويتحلّين ، فإذا نبّهتهُنَّ إلى ذلك قلن : هكذا تفعل النساء ولا قدرة لنا على مخالفة ما يفعلن . . نسأل الله العافية .
4ـ وصامَت تبتغي الأجر من الله وتعوّد نفسها تحمُّلَ المشاق ، والصبر على الجوع والعطش ، فتتذكر الفقراء المحرومين ، والأسر البائسة ، وتشعر بشعورهم ، فتعمل ما وسعها العمل على التخفيف عنهم ، ومساعدتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
زار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم عُمارة الأنصارية رضي الله نها ، فقدّمت إليه طعاماً ، فقال : (( كُلي )) فقالت : إني صائمة ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكل عنده حتى يفرُغوا )) ، وربما قال : (( حتى يشبعوا )) (6) وما أجمل دعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين زار سعد بن عبادة ، فجاء بخبز وزيت ، ولم يكن لديه اللحم مرصوصاً فوق الأرز ، ولا أنواع الحلوى التي يشبع لرؤيتها الناظرون قبل أن يأكلوا ، أكل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه ولم يأنفوا من خبز وزيت . ودعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل البيت قائلاً : (( أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلَّت عليكم الملائكة )) (7) .
5ـ وَوَصَلََتْ رحمها ، وتقرَّبت إليهم ، وأكرمتهم إن استطاعت ، فمَن أكرم أقاربه كان أقدر على إكرام الآخرين ، ومن أحسن إلى أرحامه سهَّل الله له إكرام مَن دونهم ، والنبع يروي ما حوله ثم يصل إلى ما بَعُد .
فعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة (1) ولم تستأذن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما كان يومُها الذي يدور عليها فيه ، قالت : أشعَرْت يا رسول الله أني أعتقدتُ وليدتي؟ قال : (( أوَ فَعَلْتِ ؟)) قالت : نعم . قال : (( أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك )) (2) .
فعلى الرغم أن العتق من أفضل القربات كانت صلة الرحم ، والإحسانُ إليهم أعلى فضلاً وأجزل مثوبة .
وقد مرَّ بنا قبل صفحات برُّ أسماء ذات النطاقين بأمها المشركة .
6ـ وصَدَقَتْ في قولها وفي فعلها ، فلم تدَّعِ ما لم يكن ، ولم تفخر بما لا ينبغي ، ولم تسئ إلى مشاعر الآخرين وإن سابقتهم ورغبت أن تكون خيراً منهم ، إن المنافسة سمة من سمات الإنسان ، ولكن يجب أن تكون في الحق وبالحق ، وإلا كانت خداعاً ومكراً لا يليق بالمسلم أن يتصف بهما ، ألم يقل الله سبحانه وتعالى : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (3) و (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (4) .
كذلك روت أسماء رضي الله عنها أنّ امرأة قالت : يا رسول الله إنَّ لي ضَرّة (5) فهل عليَّ إن تشَبَّعْتُ (6) من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبَيْ زور )) (7) .
فهي تريد أن تظهر أمام ضرَّتها أن زوجها يفضلها عليها ، ويميل إليها ، فيعطيها ما لا يعطي الأخرى، لتكيدها وتؤذي مشاعرها ، فبماذا شبهها النبي ُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن فعلت ذلك ؟ إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوَّر هذه الفعلة الشائنة بمن يتزيَّا بزيّ أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس ، وهو غير ذلك .
7ـ وتوكَّلََتْ على الله ولجأت إليه في العسر واليسر ووصلت حبلها بحبله فكانت أهلاً للأسوة الحسنة والقدوة الطيبة ، فاستنَّ الناس بسنَّتها ، واقتدوا بسيرتها .
وقد حدثنا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة هاجر أم إسماعيل عليه السلام ، فقد جاء إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت الحرام ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعها هناك ، ووضع عندها جِراباً فيه تمر ، وسقاءٌ فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيئ ؟ فقالت ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آللهُ أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذاً لا يضيّعنا ، ثم رجعت .
جواب رائع ، رائع ، يدلُّ على عظيم الإيمان بالله سبحانه ، وجميل التوكل عليه ، والرضا بقضائه ، فهو سبحانه خيرٌ حافظاً ، وهو أرحم الراحمين .
وقال الملك الذي حفر بجناحه زمزم : (( لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتاً يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لا يضيّع أهله )) (1) . نعم إن الله لا يضيّع أهله .
فإن فعلت تلك التي تندرج تحت سمة التقوى كانت امرأة صالحة مصلحة ، ودرجت في مرابع الإيمان ، وكانت حَرِيّة أن تبني جيلاً عظيماً وأمّةً ثابتة الأركان ورجالاً يبنون بسواعدهم المؤمنة وعقولهم الراجحة مجد أمتهم . نسأل الله ذلك .