حفل التاريخ البشري بمشهد عدوان الإنسان على أخيه، منذ قصة ابني
آدم المذكورة في سورة المائدة، في القرآن الكريم: "فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ".
ويؤكد السياق الحكم بالخسار وبالندم على القتلة، فيتحصل عقوبتان:
أحدهما: شرعية وهي الخسار، ويتضمن القصاص والذم في الدنيا
والعقوبة الأخروية: "فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا"[النساء:93].
والثانية: قدرية وهي الإحساس العظيم بالذنب، وتقريع الضمير بعدما
تنطفئ فورة الغضب، ويعود الإنسان إلى هدوئه وتفكيره وعقله.
والقتل يتم أحياناً للصراع على الدنيا والمصالح والمال والنساء
والسلطة، ولذا كان ابن السماك يقول: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم
يرفع سيف؛ سلك أنعم من سلك، ووجه أصبح من وجه، وطعام أطيب من
طعام!
وهذه قضية قائمة، يجتهد المخلصون في حصارها وتخفيفها بالتربية
والتوجيه والإصلاح، وتسعى الأنظمة والدول إلى ذلك بالعقوبات
والردع والمحاسبة.
بيد أن أشد صنوف القتل عدواناً هو ما يقع من بعض المتحمسين غلطاً
وافتياتاً على الشريعة.
هو الأشد؛ لأنه يستخدم الدين الذي جاء للعدل وحماية الحياة وحفظ
الضروريات الإنسانية في نقيض هذا المقصد العظيم، ويضع شريحة من
الذين يفترض فيهم حفظ الدماء وحقنها في موضع المباشرين للجرم
العامدين إليه المتجرّئين عليه.
وهو الأشد؛ لأنه عصي على الإصلاح، أو يقرب أن يكون كذلك، فالقاتل
لعصبية أو طمع أو دنيا إذا تليت عليه آيات الله، وسيقت إليه
أحاديث رسوله المبلّغ -صلى الله عليه وسلم- في تعظيم شأن الدم،
وشدة العقوبة على القاتل في الدنيا والآخرة ارتعدت فرائصه إن كان
من المؤمنين، واضطرب وخاف، وهذا يورث الندم، والندم طريق التوبة
والإقلاع.
أما القاتل بذريعة شرعية موهومة؛ فهو متلبس بشبهة أمْلَتْها
النفس الأمارة بالسوء، وزينها الشيطان، وحرسها الجلساء
والمساندون، ودعموها بزخرف من القول لا حقيقة له حتى عمي صاحبها
عن سواء السبيل، وصدّ عن الكتاب المنزّل، فهان عليه أن يتبرم
بالنص أو يلوي عنقه بحشو كلام، لا يقبله القائل ذاته لو سمعه من
غيره في أتفه المسائل.
وقد يندهش بعض الناس من شجاعة هذا القاتل، وهي- لعمرُ الله-
شجاعة جاهلية، ولَأَبو جهلٍ كان أشدَّ شجاعةً في بدر حين جُندِل
صريعاً يتشحّط في دمه، ويرى الموت عياناً... ثم يسأل: لمن
الدائرة اليوم؟!
ويعيّر صاحبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فيقول:
لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم!
وكل خُلق لم يحكم بقيم الإسلام وضبطه؛ فهو إلى إفراط أو تفريط.
إن استهداف أماكن التجمع العامة التي يأوي إليها الناس جميعاً؛
كالأسواق والفنادق والقطارات وسواها لهو غاية في السوء والجراءة،
ففيها المسلم العابد المصلي، وفيها عابر السبيل، وفيها المسلم
العاصي الذي لم يعطك الله الإذن بقتله، وفيها الكافر المعصوم
الدم.
فأن يقدم امرؤ على عمل كهذا، ويفجّر فيه نفسه؛ لهو -والله الذي
لا إله غيره- الجرم العظيم والإثم المبين، وهوان النفس على
صاحبها والجراءة على الله وحدوده، وما أشنع أن يسمي أحد هذا
العمل جهاداً!
وأين الجهاد في قتل المسلم أو البريء؟!
وَلَسْتُ بِقَاتِلٍ رَجُلا يُصَلي *** على سُلْطَان آخرَ منْ
قُرَيْش
له سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ إثْمِي *** مَعاذَ الله منْ سَفَه
وَطَيْش
أأقْتُلُ مُسْلما في غير جُرْم *** فَليْسَ بنا فِعِي ما عشتُ
عيْشي
إنها ضلالة صريحة، توجب علينا وعلى من يملك قلماً أو منبراً أن
يعلن النكير صراحاً بغير مواربة، وألا يمزج هذا الإنكار بغيره؛
فليس لزاماً ألا يتحدث أحد عن هذه الجرائم إلا وربطها بعدوان
الأمريكان أو اليهود أو أعوانهم.
بل يصمد إليها بخصوصها إنكاراً معززاً بدلالات النصوص القطعية،
وتوضيحات المصالح الشرعية.
والحديث عن جرم آخر قامت به فئة أخرى في العراق أو فلسطين أو
غيرها له ميدانه ومناسبته.
يجب أن نظل بعيدين عن تسويغ هذا الإجرام تحت أي ذريعة، وإذا كان
من واجب المختصين في علم الاجتماع والسياسة والأمن أن يدرسوا أي
ظاهرة، ويتقصوا أسبابها، فإن من الضرورة بمكان في هذا الوقت خاصة
أن تتمحض رسالة صريحة في إدانة هذه الأعمال وتحريمها، وإيقاف
شباب الأمة على جلية الأمر بشأنها؛ لئلا تزل قدم بعد ثبوتها.
وإذا كان المنفذون عادة أفراداً قلائل، هم الذين باؤوا بإثم
القتل، ويلقون ربهم جل وتعالى وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم،
ألا ساء ما يزرون، والمقتول آخذ برقبة القاتل يقول: يا رب... يا
رب... سل هذا فيم قتلني بغير حق.
إذا كان هذا القاتل فحَرِيٌ بمن عصمه الله تعالى من غَمْسِ يده
في الدم الحرام أن يحذر من أن يلقى الله تعالى بكلمة استحسن فيها
هذا العمل، أو أيده، أو تعاطف معه، أو صفّق لأصحابه مما قد يحدث
مثله بغير تبصر، أو بنوع عصبية، أو بادعاء أهداف وهمية تحققت، أو
بالشماتة بأطراف رسمية أو غير رسمية... فإن هذا كله لا يجوز أن
يرد في سياق تسويغ أو تهوين أو اعتذار، وليفترض امرؤ نفسه أو
أباه أو ابنه في هذا الموقع... فبأي جرم قتل؟
وليس يجوز أن نسكت عن الخطأ والجرم حتى يطأنا ويقتحم بيوتنا.
ولقد قرر الخالق العظيم جل وتعالى أن الموءودة تُسأل يوم الدين
بأي ذنب قتلت!
تُسأل تقريعاً وتهديداً لقاتلها، وهي كانت جاهلية لم تبلغ
الإسلام، وانتصر لها ربها الخالق سبحانه في ذلك اليوم العظيم...
فكيف بالبالغين؟
فكيف بالمسلمين؟
فكيف بالقتل الجماعي والعشوائي؟
إنني أعلم أن أخاً متحمساً يصل إليه هذا القدر من الكلام؛ فيقول:
أين أنتم من عدوان اليهود؟
وبغي الأمريكان؟
وفضائح التعذيب في العراق، وهي تتجدد؟
وانتهاكات جوانتاناموا...؟ إلخ.
والحق أننا يجب ألا نهاجم المسألة بمسألة أخرى، بل نفرز كل واحدة
على حدة، ونتدارس فيها الأمر ونديره، ونرفض الانتقائية، سواء
كانت انتقائية تدين الإجرام الحادث باسم الإسلام، وتسوغ الإجرام
الدولي وما يرتبط به، أو كانت انتقائية تدين الإرهاب الدولي
وتتغاضى عن العدوان والقتل باسم الإسلام والجهاد.
إن من الصراحة في القول، والحكمة في العمل أن يدري العاقل أن
الجراءة على الدماء "فتنة" إذا امتدت أكلت الأخضر واليابس، وفتحت
على الناس كلهم باب التأويل والتعذير للنفس، ثم تداخلت مع
الأهواء والنزعات والعصبيات والمصالح الخاصة، ثم يبدأ التوظيف
واستغلال الأحداث من أطراف بعيدة وقريبة، فهذا الباب يجب أن يظل
موصداً، وأن تُحفظ عصمة الدماء بكل حال، ولا يُتساهل فيها، ولا
يُتجرأ عليها، والذين يظنون أن خلط الأوراق من مصلحتهم لم يقرؤوا
التاريخ جيداً، ولم يعرفوا سنن الله في الخلق وليس لديهم رؤية
واضحة عما يريدون فعله، فالأحداث تتحكم فيهم وتصبح أعمال العنف
لديهم غاية في حد ذاتها.
أما العدو المحتل الغازي؛ فهذا يُقاوم بقدر المستطاع، وفق شروط
وضوابط، وتحت قيادات رشيدة عاقلة حكيمة، تعرف المصالح وتقدرها،
وتعرف أين تضع قدمها؟ ومتى تقدم؟ ومتى تحجم؟ ومتى تعمل السلاح؟
ومتى تعمل الحكمة أو "السياسة"؟
اللهم إن هذه الأعمال الظالمة جناية على دين نبيك المبعوث رحمة،
وعدوان على عبادك، فاحفظ المسلمين جميعاً منها، وخذ بنواصيهم
للرشد من أمرهم، واكفهم شر نزعات الغي والفساد، وامنح عبادك
البصيرة حتى لا يحبوا ما تبغض، ولا يبغضوا ما تحب، وأنزل عليهم
الرحمة والسكينة والعافية، آمين