تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
السورة : سورة أل عمران .
رقم الدرس : 5/6 .
عنوان الدرس : الرحمة - الآية 159- .
تدقيق لغوي : غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الآية التاسعة والخمسون بعد المئة من سورة آل عمران ، وهي قوله تعالى :
أيها الإخوة الكرام ؛ إنَّ الرحمة في قلب الإنسان مؤشر على اتصاله بالله عز وجل ، فأبعدُ قلب عن الله عز وجل هو القلب القاسي .
لذلك ورد في الحديث القدسي : إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، الراحمون يرحمهم الله ، أبعد القلوب عن الله القلب القاسي ، فإذا كان للرحمة مؤشر ، وللإيمان مؤشر ، وللاتصال بالله مؤشر ، فهذه المؤشرات تتحرك معاً .
يعني حجم إيمانك بحجم اتصالك بالله ، وبحجم رحمة الخلق في قلبك ، فلما يقسو قلبُ الإنسان على عبادِ الله ، يوقع فيهم الأذى .
صدقوني ... لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجه ولا زكاته ، لأنه بعيد عن الله عز وجل ، وهذه العبادات أساس القرب ، إما أنها طريق إلى القرب ، أو إن القرب من خلالها يظهر ، ومن كان قاسياً في معاملته مع عباد الله عز وجل ، فهذا دليلُ بُعدِهِ عن الله عز وجل هذه نقطة ، أما النقطة الثانية كما قال عليه الصلاة والسلام : بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ *
(رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو)
فلْنُبلِّغ هذه الآية : "ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ولو كان الإنسان فظاً غليظ القلب ، وكان متمكناً من علمه ، متبحراً في ثقافته ، لكنه فظٌ غليظ القلب ، فإنّ الناس يجفونه ، ويصدُّون عنه .
فما قولك أن النبي عليه الصلاة والسلام ، ومَن هو النبي ؟ إنّه سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ، المعصوم ، الموحى إليه ، المؤيد بالمعجزات ، كل هذه الميزات لو كان فظًّا غليظ القلب مع كل هذه الميزات لانفض الناس من حوله .
فكيف إذًا بإنسان لا معجزة معه ، ولا وحي ، ولا هو معصوم ، ولا سيد الخلق ولا حبيب الحق ، بل هو واحد من عامة المؤمنين .
فإذا كان في دعوته قاسياً فظاً غليظاً هل تقبل دعوته ؟ فمعنى الآية دقيق ، يعني: أنت أيها النبي ، أنت على ما أنت عليه من تفوقٍ ، من عصمةٍ ، من تأييدٍ بالمعجزات ، من إكرامٍ بالوحي ، أنت بكل هذه الميزات !!! ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك .
فكيف بالذي ليس متفوقاً ، وليس مؤيداً بالمعجزات ، ولا يوحى إليه ، ولا سيد الخلق ، ولا حبيب الحق ، فكيف تكون فظا غليظ القلب .
تروي كتب التاريخ ، أنَ رجلاً دخل على بعض الخلفاء ، فقال : إنني سأعظك وأغلُظ عليك ، وكان هذا الخليفة فقيهاً ، فقال : ولِمَ الغلظة يا أخي ، لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو أشرُّ مني ؛ أرسل موسى وهارون إلى فرعون ، فقال : " فقولا له قولاً ليناً لعله يتزكى أو يخشى " .
(سورة طه : 44 )
لذلك من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، فلن تستطيع أن تفتح عقول الناس ، قبل أن تفتح قلوبهم بالإحسان ، لذلك قالوا : الإحسان قبل البيان ، لا تستطيع أن تقنع الناس بالحق إلا إذا كنت على الحق ، والقدوة قبل الدعوة ، هناك قواعد ، القدوة قبل الدعوة ، والإحسان قبل البيان ، لن تستطيع أن تكون مؤثراً بالآخرين إلا إذا كنت محسنًا إليهم .
فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : "بعثت بمداراة الناس" هذه الباء في اللغة من معانيها الاستعانة ، يعني أنا أستعين على هدايتهم بمدارتهم .
وقد يسأل سائل : ما لفرق بين المداراة والمداهنة ؟ ثمَّةَ فرقٌ كبير ، فما أبعد المداراة عن المداهنة .
المداراة بذل الدنيا من أجل الدين ، تنفق شيئًا من وقتك ، وخبرتك ، وراحتك ، ومن مالك في سبيل أن تؤلف قلب أخيك ، هذه مداراة ، ولكن المداهنة أن تنفق من دينك من أجل الدنيا ، " ودوا لو تدهن فيدهنون"
( سورة القلم : 9 )
المداهنة خطيرة ، والمداهن منافق ، لا يصلي لئلا يظن أنه به دين ، هذا بذل من دينه من أجل حسن علاقته بزيد ، فهذه مداهنة ، فالمداهنة بذل الدين من أجل الدنيا ، أما المداراة فبذلُ الدنيا من أجل الدين فلذلك : "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" .
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لف ثوبه حتى لا يزعج أحدًا ، للثوب عند المشي حفيف ، فهل يعقل أن حفيف الثوب يوقظ الأهل ؟ من شدة رقته ، ومن شدة رحمته ، وشدة عنايته بأهله ، فكان إذا دخل بيته لف ثوبه ، وكان إذا رأى صبياً سلَّم عليه ، وكان الحسن والحسين يركبان على ظهره في البيت فيقول : نعم الجمل جملكما ، ونعم الحملانِ أنتما ، لماذا وصل إلى ما وصل إليه ، بأخلاقه العالية : "وإنك لعلى خلق عظيم " (إنك لعلى) ، ما قال الله سبحانه : إنك ذو خلق عظيم ، لأنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين أن يقول : إنك ذو خلق ، وإنك لعلى خلق .
فإذا وقع الإنسان في صراع ، يقول : جاهدتُ نفسي جهادًا كبيرًا ، حتى ضبطت أعصابي ، إذاً أنت ذو خلق ، أما النبي فعلى خلق ، و(على) تفيد الاستعلاء ، فهو متمكن ، فمهما استُفِزَّ فلا شيء في الأرض يخرجه عن خلقه العظيم ، إنّه متمكن من خلقه .
إخواننا الكرام ؛ الإيمانُ حسنُ الخلق ، فإذا ألغيت الخلق ، ألغيت الإيمان ، وألغيت الدين ، ولم يبق إلا شيئان ، لن يبقى من الدين إذا ألغيت الخلق إلا طقوس لا معنى لها ، وثقافات لا تنفع ولا تجدي ، معلومات وطقوس من دون أخلاق نعم .
ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.
فالآية دقيقة ، يجب أن تستشير، لأنه من استشار الرجال استعار عقولهم ، فأنت تستعير مثلاً خبرة خمسين سنة بسؤال .
من هو الذكي العاقل الموفق ؟ هو الذي يستشير ، والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه صحابي جليل ، قال له : هل هذا الموقع في بدر ، وحيٌ من الله أم الرأي والمشورة ؟ فإذا كان وحيًا ، فلا اعتراض ، فقال له : بل الرأي والمشورة فقال الصحابي : يا رسول الله هذا ليس بموقع ، قال له : أين الموقع إذًا ، قال له هناك ، وأشار إليه بكل بساطة ، بكل طيب نفس ، وقف قدوة لكل مَن يأتي بعده من العلماء والأمراء ، فأمر الجيش أن يستقر في المكان الذي أشار إليه الصحابي ، إذاً لقد مارس المشورة ، "و شاورهم في الأمر" .
فمن خصائص المؤمن ، أنه يشاور ، لكنْ من يستشير ، الاستخارة لله ، وتعلمون الاستخارة ، يعني قبل أن تقدم على أمر مباح ، من زواج ، من شركة ، من سفر ، تستخير الله عز وجل ، بأن تصلي ركعتين ، وتدعو بدعاء معروف ، إن كان في هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فيسره لي ، وإذا كان خلاف ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه فلا أتعلق به ، واقدر لي الخير حيث كان ، هذه هي الاستخارة ، أما الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين ، فعوِّد نفسك ، بكل عملك ، بتجارتك ، بصناعتك ، بزراعتك ، أنْ تبحثَ عن إنسان تثق بعلمه ، وبخبرته ، وبورعه ، لتستشيره ، فأنت إذا استشرته فقد استعرت خبرة خمسين عامًا بسؤال واحد .
لذلك يا أخي ، القرآن الكريم يحضُّ على المشورة :" وشاورهم في الأمر" ، إذا كان النبي المعصوم ، المؤيد بالوحي ، وبالمعجزات ، مأموٌر أن يشاور أصحابه ، فالمؤمنون من بابٍ أولى ، فنحن إذاً من باب أولى أن نستشير ، وما مِن إنسان يقع في شر عمله إلا وقد انفرد برأيه ، استشِرْ يا أخي إن كنت تاجرًا ، فابحثْ عن تاجر تثق في علمه ، ودينه ، وفهمه ، وخبرته فاسألْه عما أنت مقبِل عليه ، وإذا كنت بالصناعة فاسأل صناعيًّا مؤمنًا ، وإذا كنت بالزراعة فاسأل زراعيًّا مؤمنًا ، وإن كنت بالوظيفة فاسأل موظفًا مؤمنًا ، فاستشر ، فمن استشار الرجال استعار عقولهم ، "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" ، والتوكل أيها الإخوة بالقلب لا بالجوارح ، فعليك أن تسعى بجوارحك ، قال أحد العلماء الكبار : السعي سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، والتوكل حالة النبي ، فله حال وله سلوك ، فالسعي سنته ، والتوكل حاله ،
والحمد لله رب العالمين