عندما يأتي الإسلام إلى الكلمة، يجعل لها الدور الكبير والمهمة العظمى، ويضمنها أعمق المعاني وأسلمها، فهو يريد من الإنسان أن يكون صالح المنطق مهذّب الكلام، لا فحش ولا لغو ولا عبث، بل جدية مثمرة ونطق صائب، يختزن أهدافاً ربانية في طريق ممارسة صلاحيات الخليفة المؤتمن على الوجود والمخلوقات.
لذلك عبّر تعالى عن أهمية الكلمة وعظيم أثرها واستمرار نتاجها الطيب في قوله عزَّ وجلّ: "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكُلُها كلّ حين بإذن ربِّها... ومثل كلمةٍ خبيثةٍ كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار".
فالكلمة سكين ذو حدَّين:
إذا كانت حسنة وهادفة تنطلق من إرادة واعية ونية خير للبشر، فهي تصنع الحضارة والرقي وتبني المجتمع وتوجِّه الناس نحو الخير والبناء والصلاح.
"وهدوا إلى الطيِّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد" الحج/24.
وإذا كانت سيئة تنطلق من إرادة العبث واللهو وعدم تحمُّل المسؤولية، فهي تقضي على كل صلاح وخير، وتهدم ما تبقى من سلامة في نفوس البشر وتعيث الفساد في ربوع البلاد وبين العباد.
"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول".
آفات اللسان:
إن آفات اللسان عديدة وكثيرة، ويمكن القول أنها لا تحصى، فهي بعدد كلمات الإنسان.
وكل كلمة سيئة فهي آفة، فيصبح معيار سعادة الإنسان أو شقائه هو ما يجري على لسانه.
"وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم".
إن ما يقع على اللسان من ألم وعذاب وعقاب أكثر مما تتعرض له باقي الجوارح، كما قال (ص) "يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح فيقول: يا ربّ عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً؟ فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك الدم الحرام، وانتهب المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من الجوارح".
ولما كانت هذه الآفات كثيرة إلى حد لا يمكن تقصيها سنقف على بعضها مما يشكل أساس مساوىء اللسان والمخل بقاعدة "القول السديد".
1- الغيبة:
وهي ذكر المؤمن لأخيه بسوء في حالة غيابه، وهي من أشد المعاصي وأعظمها أثراً حيث يقول عنها تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً".
فيا له من تعبير ووصف.
أن يتصور الإنسان نفسه ينهش لحم أخيه بعد موته وكأنَّه لم تجمع بينهما مودة ولا صداقة في الحياة. كما ينبغي للمؤمن أن لا يتعرض لغيبة أحد مطلقاً لأن هذا يعني انصرافه عن عيوب نفسه بحسب قول النبي الأعظم (ص): "رحم الله امريءً انشغل بعيوبه عن عيوب الناس".
2- السخرية:
وهي حالة استهزاء بالآخرين وذكرهم بما يحقّرهم ويستهين بهم بقول أو إشارة أو فعل بحيث يؤدي للضحك عليهم والإهانة لهم، وهذا الأمر إنما يصدر من أهل الغفلة وناقصي العقول لأن الله تعالى ينبىء عن المغزى بقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم".
لأن الإطلاع على السرائر من صفات الله، والإنسان المؤمن من صفاته التواضع وعلامته أن لا يرى أنه أفضل من أحد.
"إن المؤمن إذا نظر إلى من هو أصغر منه قال: سبقته إلى المعصية. وإذا نظر إلى من هو أكبر منه قال: سبقني إلى الطاعة".
3- التنابز بالألقاب:
وهو يختص بخطاب الآخرين بأسماء يكرهونها لأنها تشعرهم بالذم وقد جاء في ذلك: "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان".
4- اللغو:
وهو الكلام الذي لا فائدة منه مطلقاً حيث لا يفيد في دنيا ولا آخرة، ذلك أن الإنسان ينبغي أن يكون مترفعاً عن سفائف الأمور، والله يكرمه عنها ويجعل ذلك من أسباب الفلاح فيقول في محكم كتابه: "قد أفلح المؤمنون.. والذين هم عن اللغو معرضون".
ويركز الإسلام على أن تكون كل حركة للإنسان وكل قول يعود بنفع للبشر وغير ذلك فهو للشيطان ومبعد من رحمة الله: "المؤمن إذا تكلم قال خيراً وإلا فليصمت" الرسول الأعظم(ص).
5- شهادة الزور:
وهي من الابتلاءات الشديدة التي يقع فيها الناس وهم لا يشعرون. فالزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهو يشمل الكذب وكل لهو باطل كالغناء والفحش، ومن صفات المؤمنين أنهم: "والذين لا يشهدون الزور".
وخصوصاً فيما يتعلق بأمور البيع والمعاش حيث يقوم التاجر بوصف بضاعته الرديئة بأنها حسنة فيكون قد كذب وشهد زوراً واكتسب مالاً حراماً ولذلك قيل: "التاجر فاجر ما لم يتفقه في دين الله".
فضائل اللسان:
كما سبق القول أن آفات اللسان لا تحصى كذلك فإن فضائل اللسان ومحاسنه لا حصر لها عند أهل الفضل والإيمان، ولعل كل كلمة تصدر منهم هي فضيلة وكل مقولة حسنة وكرامة، وسنأتي على ذكر بعض ما يتيسر من هذه الفضائل عسى أن يكون لنا منها فائدة نكتسبها وخصلة نلتزم بها.
1- الصدق:
وهو القول المطابق للواقع دون زيادة ومبالغة، ولا نقصان ومواربة، وهو من الصفات الخالصة للإنسان المؤمن كما أنَّه من صفات الله تعالى: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله".
لذلك نرى أن الله يدعو المؤمنين لاكتساب صفات الصدق فيقول عزَّ وجلّ: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
ولا يكون مع الصادقين إلاّ الصادق المماثل لهم في الصفات.
كما أن الصدق يؤدِّي لصلاح حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فأما في الدنيا فيقول أمير المؤمنين ?: "الصدق صلاح كل شيء".
وأما في الآخرة كما جاء عن النبي(ص) : "أقربكم مني غداً في الموقف أصدقكم للحديث".
2- القول الحسن:
وهو من وصايا الله تعالى للمؤمنين ومن مختصات عباده حيث يقول تعالى: "وقلْ لعبادي يقولوا التي هي أحسن".
وهو القول المتأدب الجميل الخالي من الخشونة والشتم وسوء الأمر، والكلام بهذه الصفة يقع في قلوب الآخرين فيترك آثاراً حسنة تعود بالخير على كِلاَ الطرفين حتى أن جباراً مثل فرعون يُرجى أن يحصل عنده خير حيث أوصى تعالى موسى وهارون في خطابه: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى".
وبهذا المقام يرتفع الإنسان من مقام السوء والمبادلة بالمثل: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً".
أي ردُّوا رداً سالماً من الإثم أو الشتم ولم ينحدروا إلى مقام المسيئين، وهذا مقام لا يناله إلاّ من أخلصه الله لنفسه،
"وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظٍ عظيم..
3- خفض الصوت:
إن للحديث آداباً منها خفض الصوت، والكلام بصورة هادئة دون جدال وصخب وصياح، مما يقلل من شأن المتحدث ويسلب منه الوقار والحياء، لذلك كانت وصية لقمان لابنه في جملة مواعظه له: "واغضض من صوتك".
خصوصاً في حال النقاش والحوار لإثبات الحجج فإن الله يوجِّه عبده في كيفية المناقشة بقوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن".
ومن جملة معاني "التي هي أحسن" أن يتكلم بصوت هاديء ومنخفض بشكل يعكس الثقة بالنفس والتمكن من الفكرة.
أخيراً:
إن الإنسان بعد أن علم أن الحساب يوم القيامة دقيق حتى على مقدار الذرة من القول والفعل، وحيث إن لديه من يحصي عليه أنفاسه وسكناته وكلامه: "وما يلفظ من قول الاّ لديه رقيب عتيد".
يصبح من اللازم عليه أن يبادر لضبط الخلل الواقع في أقواله بناءً على أمر الله تعالى: "فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً".