قال الله تعالي في الحديث القدسي:-
" من تواضع لي هكذا وجعل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بطن كفه إلي الأرض رفعته هكذا وجعل بطن كفه إلي السماء " رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني
" من لان بحقي وتواضع لي ولم يتكبر في أرضي رفعته حتى أجعله في عليين " رواه أبو نعيم عن أبي هريرة
التواضع والخشوع والتذلل هذه صفة المؤمنين حقاً ، وهي من أكمل الصفات وأدلها علي حسن أخلاق المتصف يدخل بها مرتبة من مراتب
" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"الفاتحة5 أي أن العبد لا ينبغي له أن يستعين بالله تعالي إلا أن تكون عبادته سبحانه قوية فهذه الآية تقرأ في سورة الفاتحة في سبعة عشر ركعة في الصلاة المفروضة يومياً فهي التي قال الله تبارك وتعالي عنها عند قراءتها هذا بيني وبين عبدي فعلينا أن نعبد الله جل في عُلاه كما ينبغي ليدخلنا في أن نستعين به ونتوكل عليه أي أنه هو كافينا ونصبح من المتوكلين عليه تعالي ولا نقول هذا مِنا ؛
فالتواضع مع الله تعالي يدخلنا في الرفعة "لأن من تواضع لله رفعه" والذين لهم صفة التواضع أي لا يستكبرون عن عبادته تعالي فلهم بعض الالتزامات والمهام ليثبتوا علي هذه الصفة التي نأمل أن نتعايش بها فعلي سبيل المثال دل بها القرآن الكريم في وصفهم القرآني التالي:-
1- فإنهم لا يستكبرون مع التسبيح الدائم والسجود لله تعالي
" إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ"الأعراف206 إن الله تعالي مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, فقال "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته" وإنما ذكرهم بهذا لنقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم, ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل, كما جاء في الحديث "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف" وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.
2- فبقولهم كلمة التوحيد لا إله إلا الله لا يستكبرون وفي قوله تعالي:-
"إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ" الصافات35
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل"
3- أيضاً بالسجود والتسبيح وبحمد الله تعالي إلي رب العالمين في قوله تعالي:-
"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ"السجدة 15
هذه كانت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أنهم(المستكبرون) لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك، أي خروا سجداً لله تعالى على وجوههم تعظيماً لآياته وخوفاً من سطوته وعذابه. "وسبحوا بحمد ربهم" أي خلطوا التسبيح بالحمد، أي نزهوه وحمدوه، فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده، أي تنزيهاً لله تعالى عن قول المشركين. وقال سفيان: وسبحوا بحمد ربهم أي صلوا حمداً لربهم. "وهم لا يستكبرون" عن عبادته، أي لا يستكبرون كما استكبر أهل مكة عن السجود.
4- قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ ، وقال تعالي:-
"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"غافر60
فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة . وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم . وقيل : هو الذكر والدعاء والسؤال . قال أنس رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع " ويقال الدعاء : هو ترك الذنوب ويشرط للدعاء العمل الصالح مع الإخلاص أي النية تكون علي يقين بأن الله تعالي مستجيب الدعوة له
5- لهم عزة علي الكافرين وأنهم أذلة علي المؤمنين في قوله تعالي:-
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"المائدة 54 "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه, متعززاً على خصمه وعدوه, كما قال تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال, فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه .
وقوله عز وجل "يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله, وإقامة الحدود, وقتال أعدائه, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لا يردهم عن ذلك راد, ولا يصدهم عنه صاد, ولا يحيك فيهم لوم لائم, ولا عذل عاذل.
وقال الحسن البصري رحمة الله تعالي :
"إن المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخـَـلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه".
6- وهم من عباد الرحمن إنها أشرف صفة لهم وفي قوله تعالي:-
" وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"الفرقان63
هذه صفات عباد الله المؤمنين "الذين يمشون على الأرض هوناً" أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً", فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى،أو تصنعاً ورياءاً, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا".
"وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
وقيل "قالوا سلاماً" يعني قالوا سداداً أوردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري : "قالوا سلاماً" حلماء لا يجهلون
إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون.
**** فنتعلم أن التواضع يجعلنا بالعبادة وبالتسبيح وبالحمد الدائم مع الدعاء المستمر أذلة علي المؤمنين أعزاء علي الكافرين فكل هذا من صفات عباد الرحمن
وأن التواضع "أن يتواضع العبد لصولة الحق" يعني أن الحق بالخضوع له والتذلل والانقياد والدخول تحت رقــهِ بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكـِه
ولهذا فسر النبي صلي الله عليه وسلم الكبر فقال:- "الكبر بطر الحق وغمط الناس" فبطر الحق رده وجحده والدفع في صدره وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم.
وجزاء من يُكذب بآيات الله تعالي ويستكبر أي يُكابر في أحكام الأوامر والنواهي وغيرها من التكذيب والاستهوان بكل الشرائع فأولئك لهم جزاء أي عقاب شديد لا تُـفتح لهم أبواب السماء من رزق وبركة ورضا رب العالمين ودعاء الملائكة لهم مع عدم دخولهم الجنة أي استحالة دخولهم ذلك
في قوله تعالي:-
" ِإنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ"الأعراف40
(إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا) تكبروا (عنها) فلم يؤمنوا بها (لا تفتح لهم أبواب السماء) إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت فيهبط بها إلى سجِّين بخلاف المؤمن فتفتح له ويصعد بروحه إلى السماء السابعة (ولا يدخلون الجنة حتى يلج) يدخل (الجمل في سمّ الخياط) ثقب الإبرة وهو غير ممكن فكذا دخولهم (وكذلك) الجزاء (نجزي المجرمين) بالكفر
فإن العزة والقوة والكبرياء والعظمة لله تعالي هي مختصة بالله عز وجل لا يشاركه في هذه الصفات أحد من خلقه ولا يليق لا أنس ولا جن لا ملك ولا سلطان لا فقير ولا عني فضرب الله تعالي مثلاً تقريبياً في الحديث القدسي:-
"العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني منهما شيئاً عذبته"
أو " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار"
فمن نازع الله عز وجل في شئ من هذه الصفات المختصة به جل في عُلاه قذفه في النار وعذبه بها وهذا فيه زجر عن إدعاء العزة والكبرياء والعظمة والقوة فلا يوصف بها علي الإطلاق غير الخالق والبارئ
وقال صلي الله عليه وسلم :-
"ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله "
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال:
أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع:
أمرني بحب المساكين والدنو منهم, وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي, وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت, وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً, وأمرني أن أقول الحق وإن كان مـُراً, وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم, وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله, فإنهن من كنز تحت العرش .