حلول اسلامية لمشكلة الفقر
ربما كان من أفضل الكتابات في معالجة هذه القضية ما كتبه أبو عبيد اللقاسم في مؤلفه الموسوعي "المال"، وما عرضه الفقيه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، ورسالته العلمية التي نال بها الدكتوراه حول موضوع لصيق بالقضية هو: الزكاة. والدكتور القرضاوي يطرح حلولا أربعة كفلها الإسلام لمواجهة مشكلة الفقر.
فالأصل أن كل إنسان في عالم الإسلام مطالب بأن يعمل ما دام قادرا على ذلك " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" ـ الملك ـ والعمل قرين الجهاد " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله" ـ المزمل 10 و.. " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" ـ رواه البخاري .. و"اليد العليا خير من اليد السفلى" ـ رواه أبي عمر.
والآيات والأحاديث وشواهد التاريخ الإسلامي معروفة لدى الكثيرين، وكلها تؤكد قيمة العمل وتعززها، بالأمر حينا، وبالنصح حينا، وبالتغريب مرة وبالترهيب مرة.
بعد ذلك يجيء العنصر الثاني من حلول مشكلة الفقر، وهو: كفالة الموسرين والأقارب، ذلك أن " أولو الأرحام أولى ببعض في كتاب الله" ـ الآية الأخيرة من سورة الأنفال ـ" إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" ـ النحل. ( لاحظ كلمة يأمر) ـ و .. " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" ـ متفق عليه. والتشريع الإسلامي هو الوحيد الذي ينفرد بإقرار هذا الحق للفقير تجاه قريبه الموسر.
و"الزكاة" هي الحل الثالث. وهي ليست أحد أركان الإسلام الخمسة فقط، ولا قرينة الصلاة فقط، ولكنها أيضا العبادة الوحيدة التي يمتد أثرها الى الناس بصورة مباشرة. فهذا مال يقتطع بنسبة معينة، ليوجه الى مصاريف محددة في المجتمع. بينما الأركان الأربعة الأخرى تقوم على علاقة الإنسان بربه. ولا تنعكس على الآخرين إلا في صورة غير مباشرة، بقدر انعكاس أداء شعائرها على خلق المسلم وسلوكه.
ولخطورة الدور الذي تؤديه، فقد تشدد الرسول عليه السلام في شأنها حتى قال:" من أعطاها مؤتجرا ( أي طالبا للأجر والثواب) فله أجرها. ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر ماله ( أي نصفه) غرمة من غرمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء".
وهذا الحديث يقول الدكتور القرضاوي ـ يجيز لولي الأمر مصادرة نصف مال من امتنع عن أداء زكاته. وهو نوع من العقوبات المالية التي يتخذها الحاكم عند الحاجة تأديبا للممتنعين والمتهربين. وبذلك صارت الزكاة هي الركن الوحيد من اركان الإسلام الذي يخضع المسلم لعقاب دنيوي إذا قصر في أدائه.
ولنفس السبب قاتل الخليفة الأول أبو بكر الصديق ومعه الصحابة، مانعي الزكاة. وقال كلمته المشهورة "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
وهو ما استند اليه فقيهنا ابن حزم في فتواه:" وحكم مانع الزكاة، إنما هو أن تؤخذ منه، احب أم كره، فإن مانع دونها فهو محارب، فإن كذب بها فهو مرتد، فإن غيبها ولم يمانع فهو آت منكرا. فوجب تأديبه أو ضربه حتى يحضرها، أو يموت قتيل الله تعالى الى لعنة الله. المحلى جـ 11.
وللزكاة ـ كما نعلم ـ مصارف ثمانية محددة " إنما الصدقات على الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم" ـ التوبة 58، 60.
والذي يتصل بموضوعنا ان هذه الزكاة فريضة على المال من صاحب المال الأصلي وواهبه سبحانه، وانها ليست تبرعا من الأغنياء، ولكنها حق الفقراء. "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" ـ الذاريات 19ـ.. وإن الهدف الأساسي لها هو إعانة ذوي الحاجة من المسلمين.
وهناك من يحاول أن يصور العدالة الاجتماعية في الإسلام بانها "عدالة قائمة على الصدقات"، بمعنى التبرع ومد اليد. ويغيب عن هؤلاء أن الإسلام يعتبره مال الله في الأساس، وان نصيب الفقراء فيما لدى الأغنياء هو "حق" بالدرجة الأولى، وأن الزكاة ليست متروكة لتطوع القادرين وأمزجتهم، ولكنها فريضة واجبة، تقتطع من مالهم إذا تقاعسوا عنها. أي أنها في حقيقتها " ضريبة" سنوية واجبة للحاكم المسلم، هدفها تحقيق التكافل في دار الإسلام، حتى لا يظل المال " دولة بين الأغنياء".
لكن هذه الزكاة المفروضة ليست كل حق الفقراء فيما لدى الأغنياء، ولكنها الأدنى المفروض في الأموال. ولولي الأمر إذا لم تسد الزكاة حاجة فقراء المسلمين أن يأخذ المزيد من الأغنياء، بالقدر الذي يسد هذه الحاجة. والحديث الشريف صريح في ذلك "ان في المال حقا سوى الزكاة" ـ رواه الشيخان.
والمصدر الرابع لمعالجة مشكلة الفقر هو الخزانة الإسلامية بمختلف مواردها. ففي أملاك الدولة الإسلامية، والأموال العامة التي تديرها وتشرف عليها، بالإستغلال او الإيجار أو المشاركة. وفي خمس الغنائم ـ إن وجدت ـ وفي مال الفيء وفي الخراج ( الضرائب العقارية).. في كل هذه الموارد نصيب للمحتاجين والمعوزين.
"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" ـ الحشر 7. ولنذكر قسم الخليفة عمر بن الخطاب الى ذلك. إذ أن المقصود بإشارته هم الذين يعيشون في دار الإسلام. وعمر نفسه هو الذي أثار انتباهه شيخ من يسأل الناس، فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: ذمي ( وكان يهوديا) فرد عمر: ما أنصفناك؟.. أكلنا شيبتك ثم نضيعك في هرمك. وأخذه الى بيته فأعطاه ما وجده عنده، وارسل الى مسؤول بيت المال يقول: الى هذا وضربائه، فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم.
ذلك أنه عندما يتصل الأمر بالفقر والحاجة، فإن القضية المطروحة تصبح قضية كرامة الإنسان، مجرد كونه إنسانا، مسلما أو غيرمسلم. والنص القرآني " ولقد كرمنا بني آدم"، ولم يقصر التكريم على مخلوق دون آخر.
وليس الهدف من هذا كله أن يعيش الإنسان في عالم الإسلام عند حدود الكفاف. ولكن الهدف هو سد حاجة الإنسان قدر الإمكان، ليعيش حياة كريمة تليق بمخلوق الله المختار.
والحديث الشريف يقول: من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليس له زوج فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة ـ رواه الإمام أحمد وأبو داود. " وإذا كان الحديث واردا في حق موظفي الدولة، إلا أن العلة التي اقتضت حصول الموظف على ذلك، وهي تحقيق كفاية للقيام بعمله بأمانة واستقرار، تقتضي توفير ذلك لجميع العاملين، ولو بإسهام من بيت المال" إشتراكية الإسلام ـ د. مصطفى السباعي.
وعمر بن الخطاب هو صاحب القول: إذ أعطيتم فأغنوا.
وقد سئل الإمام الحسن البصري عن الرجل تكون له الدار الخادم، أيأخذ من الزكاة؟.. فأجاب بأنه يأخذ ان احتاج، ولا حرج عليه. الأموال لأبي عبيد.
وثمة اتفاق بين أئمة المذاهب الأربعة، حتى قال الأحناف: لا بأس بأن يعطى الزكاة من له مسكن، وما يتأثث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاح، وثياب البدن، وكتب العلم ان كان من أهله. واستدلوا على ذلك بقول الحسن اليصري ( كانوا يعدون الزكاة لمن كان يملك عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والخادم والدار). والمعنى بذلك هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن هذه الأشياء من الحوائج اللازمة التي لا بد للإنسان منها، فكان وجودها وعدما؛ سواء" بدائع الصنائع للكاساني جـ 2.
وقد أفتى الفقهاء بأن العابد لا يستحق زكاة بينما العالم المحتاج يستحقها، لأن الأول ينفع نفسه والآخر ينفع الناس بعلمه! مشكلة الفقر ـ الدكتور يوسف القرضاوي.
هؤلاء وأمثالهم، يعتبرون " أصحاب حاجة" يحق لهم نصيب من الزكاة!..
أليس هذا أمرا مدهشا؟
أليس مدهشا أيضا أن يعطى أحد المحتاجين ثلاثا من الإبل من بيت المال في عهد عمر بن الخطاب، فيحث عمر موظفي بيت المال على أن يزيدوا أمثاله ويقول: كثروا عليهم الصدقة وان راح على أحدهم مائة من الإبل"؟
وأليس مدهشا أن يبلغ هذا الأحساس بالتكافل مدى يدفع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى أن يفرض لكل مولود مائة درهم، فإذا ترعرع زاده الى مائتين، فإذا بلغ زاده كذلك.
بينما عمر بن عبدالعزيز يطوف المنادون: أين المساكين؟ أين الغارمون ( المدينون)؟.. أين الناحكون ( الراغبون في الزواج)؟ أين اليتامى؟.. حتى قيل: ما مات عمر بن عبدالعزبز، حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله.
وهذه الملابسات والشواهد، هي التي استند اليها ابن حزم في كتابه المحلى وهو يحدد الكفاية التي بدونها يصبح الإنسان فقيرا. إذ قرر أن أدنى ما يتحقق به المستوى الإنساني لمن يعيش في دار الإسلام هو: طعام وشراب ملائمين، وكسوة للشتاء وآخرى للصيف، ومسكن يليق بحاله. ( أي حقوق المأكل والملبس والمسكن).
وإذا لم يتحقق هذا الحلم العظيم، ووقع المحظور، واستبد الفقر بالمسلم.. إذا جاع مثلا؟؟
هنا ترتج الأرض والسماء، فهذا مخلوق الله المختار وخليفته على الأرض يتعرض لمذلة الفقر ومهانة السؤال. وهنا تقف النصوص الإسلامية موقفا بالغ الحزم والعنف، تجرم الحدث، وتدعو الى إزالة آثار الجريمة بكافة وسائل الترهيب والتحريض.