إن نظرة إلى أحوال المسلمين وإلى الواقع المعاش من حولنا ربما تصيب البعض بالإحباط؛ حين يرى الإنسان الباطل يعلو وينتفش، ويكسب كل يوم من الحق مواقع جديدة، وحين يرى الحق ينخفض ويستخزي وينكمش.
حين يقلب الإنسان نظره في تاريخ أمتنا المجيد، ومجدها التليد، وطول المدة التي سادت فيها الدنيا، ونشرت العلم والنور، وعلمت العالمين الأخلاق والحضارة، وكيف كانت محفوظة الجناب، مرهوبة الجانب، يخشى أعداؤها غضبتها، ويخطبون ودها ... ثم يرقب واقعها المرير فلا يكاد يرى زمانا جرت فيه دماء المسلمين وانتهكت فيه أعراضهم، وترملت فيه نساؤهم، ويتم فيه أطفالهم، وهدمت فيه مساجد، وشرد فيه أناس، ونكست فيه رايات تنتسب (ولو تمسحا) بالدين.
حين يرى أخلاقيات العالم ـ ومعهم كثير من المسلمين ـ وقد انتكست الفطر واستهزئ بالقيم وحوربت الفضائل، واستعلن بالرذائل، واستهزئ بالحق وأهله حتى صار الدين رجعية وتخلفا، والحجاب والعفاف انغلاقا، والتمسك بسيمى الصلاح تطرفا.
مع هذا الواقع المرير ربما دخل القلوب اليأس، واستولى على النفوس القنوط، وظن البعض أنه لا قيام للدين مرة أخرى، ولعل هذه تكون هي الحالقة.
عند ذلك تأتي الهجرة بأحداثها لتحيي في القلوب الأمل، وتزرع في نفوس اليائسين الرجاء.
فعودة إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بقليل، وتقييم واقع المسلمين الأول نكاد نرى واقعا أشد مما نحن فيه الآن:
فقد عاش هؤلاء الكرام مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة من الخوف والألم، والتعذيب والتنكيل، رأى المسلمون فيها ألوان الهوان وصنوف الإذلال.
ثلاث عشرة سنة والنبي، صلى الله عليه وآلة وصحبه وسلم، يطوف على القبائل ويدور على أصحاب الزعامات والرئاسات يقول: "من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي"؟ فما يجد إلا العنت والاستهزاء.
ثلاث سنين كاملة من الحصار في شعب أبي طالب (مقاطعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى) حصار اقتصادي واجتماعي وسياسي (حتى لا يظن أحد أن الحصار اختراع جديد اخترعه كفار اليوم لإذلال الدول الإسلامية) حصار شديد حتى أكل الناس ورق الشجر إلى أن تشققت الأشداق، وحتى وضع الناس كما تضع العنز، وربما خرج أحدهم ليبول فيسمع تحت ماء البول قعقعة فإذا بها جلدة ميتة فيأخذها من شدة الجوع فيغسلها ويضعها على النار ليتقوى بها على ما به من جوع.
ثلاثة عشر عاما والنبي صلى الله عليه وسلم يلقى الأذى في نفسه ـ رغم مكانته فكيف بأصحابه؟!ـ.. ربما سجد عند الكعبة فيضع الكافرون سلى الجزور على ظهره، وربما قابلوه فتجمعوا حوله يدفعونه ويهدهدونه ويحاولون خنفه حتى يأتي أبو بكر فيدفعهم عنه ويقول: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟"... فيتلهون بأبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضربونه ضربا مبرحا وما تركوه حتى ظنوا أنه ميت.
ثلاث عشرة سنة وأصحابه رضي الله عنهم يلاقون من الأذى ما لا تحتمله الجبال الرواسي، تحريق بالنار، وتغريق في الماء، وضرب بالسياط حتى كلت السياط وأيدي الضاربين بها، وحتى أكلت رمال الصحراء المحترقة طبقات جلودهم وهذا بلال يشهد وكذا خبّاب بن الأرتّ.
لقد اضطر المسلمون الأوائل أن يتركوا بلادهم مهاجرين إلى الحبشة مرة بعد مرة، حتى إذا زاد بهم البلاء واشتد بهم الكرب قام قائمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تستنصر لنا فيقول صلى الله عليه وسلم مصبـِّـرًا ومبشرًا: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".(رواه البخاري).
وفي وسط هذا الظلام الحالك ومن بين كل هذا البلاء وتلك الشدة من كان يعتقد أن يأتي الفرج على يد ستة أنفس لا وزن لهم ولا زعامة ولا وجاهة لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج فكلمهم، ما كان يرجو إلا أن يستنقذهم من النار ويؤدي حق الله عليه في دعوتهم للدين الجديد، فكانوا الفجر الذي انقشع به ظلام الكفر، والنور الذي أضاءت بسببه أرجاء الأرض، والأمل الذي بدد سحب اليأس.
لقد كانوا ستة، صاروا في الموسم التالي اثني عشر ثم عادوا في العام الذي يليه (13 من النبوة) وهم خمسة وسبعون مسلما فيهم امرأتان بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على أن يمنعوه وينصروه إذا ما هاجر إليهم، ويحفظوه مما يحفظون منه أنفسهم وأزواجهم وأولادهم.. فكانت الهجرة الميمونة، وكانت لبنة الدولة الجديدة، وكانت بداية النصر والتمكين.. فمن كان يتوقع ذلك أو حتى يحلم به؟!.
إن من أعظم دروس الهجرة أنها تحيي في قلوب المؤمنين الأمل: الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
رحلة الأمل
ولقد جاءت رحلة الهجرة ذاتها لتبين لكل ذي عينين أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له، منصور بنصرة الله، وأن أهل الإسلام المخلصين العاملين له محفوفون برعاية الله، مصحوبون بمعيته، غالبون بأمره وقدرته.. وكل ما في الهجرة يؤيد هذا ويؤكده:
فخروج النبي صلوات الله وسلامه عليه من بيته ليلا وقد أحاط المشركون بالبيت مصلتين سيوفهم مستعدين لقتله إذا ما خرج فجرا.. ثم خروجه عليه أزكى الصلوات والتسليمات يقرأ القرآن ويحثوا على رؤوسهم جميعا التراب، وقد ضرب الله النوم على قلوبهم وأصحبهم الذل والخذلان، ونجى الله نبيه منهم.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالحوادث كلهن أمان
ثم موقف الغار وما أدراك ما الغار.. لم يكن بين وصول الكفار إلى الصاحبين إلا أن يطأطئ أحدهم رأسه ليراهما، لكن صاحب القدرة ـ سبحانه ـ منع الرؤوس أن تميل، وأخذ العيون عن النبي وصاحبه، وعاد المشركون بالخيبة والخسارة بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من الظفر بالغنيمة، لكن الأمر كما قال الحبيب لرفيق دربه: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟!
وجاء موقف سراقة ليؤكد ما سبق ويجلي مفهوم النصرة ومعنى الحفظ والرعاية من الله لأوليائه:
لا دروع سابغات لا قنا ... مشرعات لا سيوف منتضاة
قوة الإيمان تغني ربها ... عن غرار السيف عن سن القناة
ومن الإيمان ظل وارف ... ومن التقوى حصون للتقاة
ورغم كل الحادثات وصل ركب الطهارة إلى يثرب الخير ظافرا، لتبدأ حقبة أخرى من تاريخ الدعوة وتبدأ شمس الإسلام إشراقها على الدنيا من طيبة الطيبة.
الرسول وبث الأمل
لم تكن الهجرة وحدها هي التي تحيي آمال المؤمنين بل كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أمل حتى في أحلك اللحظات، وأشد الأوقات، وأعتى الأزمات .. وتذكر يوم بدر(أريت مصارع القوم)، ويوم الخندق (أعطيت مفاتيح كسرى وقيصر)، ويوم .. ويوم.
فإياك أن يصيبك اليأس، أو يدنو من قلبك قنوط أو إحباط .. بل أمل الخير والنصر، وتذكر وعد الصادق المصدوق الذي لا يتخلف وعده: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها".
أعود بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم..{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}... (النور:55) .. صدق الله العظيم.