( 1 )
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية كعادته كل ليلة عندما سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلي اللبن فاخلطيه بالماء. أبت الفتاة أن تفعل قائلة: يا أماه إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد نهي عن غش اللبن بالماء. ردت الأم: وهل يرانا عمر الآن إذا فعلنا ؟ قالت الفتاة الصالحة: يا أماه إذا كان عمر لا يرانا فإن ربه يرانا. مضي الأمير حامدا ربه أن جعل في أمته مثل هذه الزهور الواعدة، وأسرّ رضي الله عنه في نفسه أمرا .في الصباح استدعي المرأة وابنتها، وسألهما عما حدث بينهما البارحة، فقصتا عليه ما حدث بكل الصدق والأمانة. تذكر الفاروق أن ابنه عاصما قد بلغ مبلغ الرجال ولم يتزوج بعد. وهل يجد عاصم زوجة صالحة موفورة العقل والذكاء مثل هذة الفتاة الأمينة ؟
دعا الفاروق ابنه وأشار عليه بخطبة الفتاة ووافق الابن الصالح من فوره.
وكأن الأمير الملهم كان يستشف ما وراء حجب الغيب، ولا عجب فهو الفاروق الذي كان ينطق بالكلمة فينزل القراّن الكريم بها من فوق سبع سماوات!!
فقد ولدت هذه الزوجة التقية لابنه عاصما بنتا سمّاها ليلي كان لها فيما بعد شأن عظيم . وما كان غريبا أن تشب ليلي عن الطوق في بيت الخلافة الراشدة فترضع التقي والعدل والعز ومكارم الأخلاق، وتتفتح أكمامها يوما بعد يوم، مبشّرة بفجر جديد يخلق في رحمها ليعيد إلي الأرض ما فقدته حينا من الدهر، بعد أن ودّعت أربعة من خلفاء رسول الله صلي الله عليه وسلم في أمته، وتحولت الخلافة الراشدة إلي ملك كريه مغتصب يتوارثه بنو أميّة بغير رضا أو شوري من المسلمين.
وقد كان من كرامات الفاروق عمر رضي الله عنه أنّه يلهم بالأمر فيحدث كما توقعه بلا زيادة أو نقصان. وهناك قصته المشهورة عندما صعد إلي المنبر ليخطب الجمعة وفجأة صاح : يا سارية الجبل الجبل ومن استرعي الذئب الغنم فقد ظلم. ويومها عجب الناس وظنّوا بعقل أميرهم الظنون، ولكن شاء الله أن يأتي البشير بعد ذلك بانتصار جيش سارية علي الفرس في نهاوند ،وأخبرهم بأنهم سمعوا في تلك الجمعة التي وقع فيها القتال صوتا يقول يا سارية الجبل الجبل فاحتموا بالجبل وكان هذا سببا لتحقيق النصر بإذن الله.
ومنها أيضا أنه كان يردد كثيرا وكأنه يناجي نفسه بما أطلعه الله عليه سبحانه وألهمه إياه: "ليت شعري من هذا الذي بوجهه شجّة- أثر جرح- من آل عمر يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؟!
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يكفّ عن التبشير بخلافة عمرية أخري قبل قيام الساعة. وكان يقول: يا عجبا، يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر الخلافة يعمل بمثل عمل عمر. وكانوا يظنون أنه سيكون بلال بن عبد الله بن عمر، لأن في رأسه علامة تشبه تلك التي جاءت بها الآثار. لكن القدر كان يحتفظ بها لحفيد فتاة أمينة اتقت ربها، وأبت ذات ليلة أن تبيع دينها بقليل من الماء تزيد به وزن اللبن.
تزوجت ليلي بنت عاصم بن عمر بالشاب الصالح عبد العزيز بن مروان الذي خرج مع أبيه مروان بن الحكم إلي الشام. وقدّر الله للأب أن يلي الخلافة ، فجعل الأمر من بعده لابنه عبد الملك ثم لأخيه عبد العزيز. وفي سنة 65 بعد الهجرة النبوية الشريفة تولى عبد العزيز بن مروان حكم مصر. وفي حلوان ولدت ليلي ابنها عمر بن عبد العزيز . كانت الغنائم وأموال الخراج تتدفق علي بيت المال من كل حدب وصوب، ولم يكن أمير مصر يأل جهدا في التوسعة علي الرعية من مال الله . وكان يحرص علي تكريم العلماء والصالحين ومنهم عبد الله بن عمر الذي كان يتلقى الدنانير من عبد العزيز بن مروان فيوزعها كلها علي الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم من المستحقين. وكان عبد العزيز يقول لجلسائه: عجبا لمؤمن يوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه فيحبس مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء؟!
أحضروا إليه ذات مرة أمواله ليحصيها فإذا هي أكثر من ثلاثمائة مد من الذهب، وهو قدر يعادل ملاين الدنانير، لكن الرجل الصالح لم يغتر بكثرة المال ولم يفخر علي جلسائه بنعمة الله الوافرة، بل انهمرت الدموع علي خديه وهو يقول: والله لوددت أنه بعر ( أي مخلفات الإبل ) ولوددت أني لم أكن شيئا مذكورا، وددت أن أكون هذا الماء الجاري أو نباتة بأرض الحجاز. كان عبد العزيز بن مروان يشعر بثقل التبعة الملقاة علي كاهله، و يعلم أنه سيحاسب علي ما أعطاه الله من السلطة والمال حسابا عسيرا يوشك أن يلقي به في أعماق الجحيم ما لم تدركه رحمة الله ومغفرته. ولهذا كان حريصا علي الإنفاق من ماله ما استطاع إلي ذلك سبيلا، وكان يتقي الله في أهل مصر، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يشب أولاده علي شاكلته.
( 2 )
من بين أولاد عبد العزيز بن مروان كانت للصغير عمر مكانة خاصة في قلب أبويه. كانا يعلمان أن له شأنا أخبر عنه جده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعم والدته عبد الله بن عمر وعدد كبير من الصحابة والتابعين الذين أجمعوا علي أن أعدل حكام بني أمية قاطبة سيكون فتي برأسه شجة ( إصابة )، و ينتهي نسبه إلي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. ولم يكن هذا الأشج سوى الصغير عمر بن عبد العزيز الذي تحققت الآية فيه مبكرا.
دخل مرة إلى إصطبل خيول أبيه ليلهو ويلعب فركله جواد في رأسه. ذاب قلب عبد العزيز وهو يمسح الدماء الغزيرة من رأس طفله، وفزعت أمه ليلي بنت عاصم، لكنهما أيقنا منذ تلك اللحظة أن الخلافة الراشدة الموعودة توشك أن تصادف موضعا من حفيد ابن الخطاب. راح عبد العزيز يخفف ألام الطفل ويهوّن علي زوجته قائلا: " إن كنت يا ولدي أشج بني مروان أنك إذا لسعيد". وما له ألا يكون هو وقد كانت أمه تدخل عليه في طفولته المبكرة ، فإذا هو يبكي لذكر الموت والحساب. كان الصغير قد أتم حفظ القران الكريم في فترة قصيرة، وأراد أبوه أن يجعله معه في مصر حيث ولايته، لكن الفتي الذي لم يكن قد بلغ الرشد بعد قال له: يا ابتي إني أرغب في أمر لعله يكون أنفع لي ولك؟ سأله أبوه: وما هو؟ أجاب عمر: ترسلني إلي المدينة فأجلس إلي فقهائها لأتعلم منهم وأتأدب بآدابهم .كان رأى الصغير العبقري صائبا ، فأرسله أبوه إلي صالح بن كيسان رضي الله عنه- وكان من كبار فقهاء المدينة- ليعلمه. وفي مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم بدأت مرحلة جديدة من حياة الفتي الذي تصنعه الأقدار لأمر عظيم. وكان من حفظ الله له أنه خطا إلي المراهقة والفحولة في المدينة بعيدا عما انغمس فيه أقرانه وبنو عمومته من ملذات ونعيم زائل بأرض الشام التي تحولت في عهد الأمويين الي بلاد للفتنة والتكالب علي حطام الدنيا تشبها بأباطرة الرومان وأكاسرة الفرس. وشتان ما بين فتي يستهل صباه بحفظ القراّن الكريم وما استطاع من الفقه وحديث الرسول صلي الله عليه وسلم والصبر علي ملازمة كبار الفقهاء من الصحابة والتابعين ليل نهار، وآخر يشب بين أحضان الجواري ونعيم القصور الذي ينسي أهلها أمر الآخرة والحساب، فيقتل فيه الرجولة ويعكر صفاء الذهن ويترك الشاب مسخا مشوها لا يكاد يصلح لشيء.
( 3 )
ربما لم يعرف تاريخ ولاة بني أمية أشر ولا أخبث من الحجاج بن يوسف الثقفي طاغية العراق الذي باع دينه بدنيا بني مروان بن الحكم، و سفك دماء مئات الألوف من المسلمين، وضرب وجوههم، وشرّد أطفالهم ونساءهم، واعتقل أشرافهم، وأذل سادتهم في سبيل تثبيت دعائم الملك الأموي. أجل إنه الحجاج دعوة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما علي أهل العراق الذين فسقوا ونافقوا ولم يسلم أمير من أذاهم وشقاقهم وخيانتهم. فقد جاءت الرسل إلي عمر رضي الله عنه يوما ليخبروه بأن العراقيين قذفوا الوالي علي منبره بالحصى . غضب عمر حتى سها لأول مرة في صلاته، وعندما فرغ دعا علي أهل العراق قائلا:" اللهم عجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجبابرة لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ".
وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يدعو علي أهل العراق بعد أن خذلوه قائلا: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني ، فسلط عليهم فتي ثقيف الذيّال الميّال يأكل خضرتها ويلبس فروتها ويحكم فيها بحكم الجاهلية. وهو الطاغية المبير ( المهلك ) الذي قال عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم " يخرج من ثقيف رجلان كذّاب ومبير ".كما أخبرت السيدة أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضي الله عنهما.
لم يكتف الحجاج بسفك الدماء الذكية أنهارا بلا ذنب أو دليل ، وإنما أضاف إلي ذلك كبائر من الذنوب لا تحصي ولا توصف . كان يتطاول علي كبار الصحابة بما لا يجرؤ علي النطق به مسلم، رغم الإجماع المعروف على كفر من يسب صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم. وكان لا يتورع عن فعل أي شئ ينافق به حكام بني مروان ويرضيهم عنه ولو بسخط الله عز وجل وقهر الأبرياء العزل بلا جريرة. ومن ذلك أنه بعث إلي عبد الملك بن مروان يحرضه علي خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد وتولية ابنه الوليد بن عبد الملك بدلا منه. وكان حكام بني أمية منذ عهد معاوية بن أبي سفيان قد دأبوا علي توارث السلطة بلا رضا من المسلمين أو إعمال للشورى التي أمر بها القران الكريم. فكان الحاكم الأموي يبعث في الأمصار بالبيعة لمن يشاء من أولاده، فمن أبي البيعة من الرعية فإن مصيره الموت علي الفور بسيوف الولاة الطواغيت . كذلك أخذ مروان بن الحكم البيعة لولديه عبد الملك ثم عبد العزيز رغبا ورهبا، لكن عبد الملك بن مروان بتحريض من الحجاج الثقفي طمع في تولية ابنه الوليد بدلا من أخيه ، فكتب إلي الأخر- وكان عبد العزيز واليا علي مصر في ذلك الوقت- يطلب منه التنازل عن ولاية العهد للوليد بن عبد الملك .
رفض عبد العزيز مطلب أخيه الطامع، ورد عليه مرشحا لابنه أبي بكر بن عبد العزيز بدلا من الوليد. و ساءت علاقات الأخوين لذلك السبب، فأرسل عبد الملك إلي عبد العزيز يأمره بإرسال خراج مصر إليه خلافا لما تعارفا عليه من قبل . فقد كان والى مصر لا يرسل شيئا من الخراج إلي الخليفة الأموي بدمشق ، وينفقه كله في مصالح المصريين. ولجأ عبد العزيز إلي ملاطفة أخيه حتى لا يرهق أهل مصر بدفع الخراج ، فكتب إليه يقول: إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا عمرا لا يبلغه أحد من أهل بيتنا إلا كان بقاؤه بالدنيا قليلا ، وإني لا أدري ولا تدري أنت أيضا أينا يأتيه الموت أولا ، فإن رأيت ألا تعتب علي بقية عمري فافعل . تأثر عبد الملك بالرسالة فكف عن محاولات إرغام أخيه علي التنازل عن ولاية العهد وترك الأمر لله.
( 4 )
لم يجد حاسدو الفتي الأموي الناضر له عيبا سوي المبالغة في ارتداء أفخر الثياب وأجودها وأغلاها ثمنا.
كانت له أموال تدر ريعا سنويا يزيد علي أربعين ألف دينار، لكنه لم ينس الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فقد ورث الكرم والمروءة ومحبة المساكين، وهو وإن كان مترفا ناعما فإنه أيضا شب بين فقهاء مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن بقي علي قيد الحياة من أصحابه الأبرار وأتباعهم الصالحين. ولهذا كان يفئ إلي الحق عندما يذكره أحد به، ويقضي الأيام والأسابيع يحاسب نفسه علي أدني هفوة خشية أن يميل بها ميزانه يوما تشخص فيه القلوب والأبصار .
تأخر الصبي ذات يوم عن صلاة الجماعة فسأله معلمه صالح بن كيسان: ما شغلك عن صلاة الجماعة؟
أجاب عمر: كانت مربيتي تسوّي شعري!
قال له المعلم: قدّمت هذا علي الصلاة؟!! وأرسل إلي والده بمصر يخبره بما حدث. غضب عبد العزيز بن مروان بشدة علي ولده، وأرسل إليه من مصر رجلا وأمره ألا يكلم ابنه حتى يحلق شعره كله تأديبا له علي تأخير الصلاة في تلك المرة اليتيمة . هكذا كانوا يربون الأطفال ويصنعون منهم بإذن الله رهبانا بالليل فرسانا بالنهار. وهكذا نشأ عمر بن عبد العزيز، حتى قال عنه معلمه وهو لم يزل صبيا غضا: ما علمت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
كان عمر يغشي مجالس العلم والفقه والذكر في المسجد النبوي الشريف فيسمع من أنس بن مالك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسالم بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهم من كبار الفقهاء والصالحين في عهده. وربما شدد عليه بعضهم وأغلظ له القول وهو يعظه، فلا يغضب الفتي الأموي، وهو ابن حاكم مصر وابن شقيق الخليفة الأموي الذي ترتعد أوصال أكثر الرعية فرقا من سيفه، وتطمح أبصار الكثيرين إلي ذهبه البراق وعطاياه المسرفة للأنصار والحواشي.
كان عمر يتواضع لهؤلاء الأعلام الفحول، وكانوا هم لا يعبأ ون بجاه الحكام وسلطانهم وما في أيديهم من أموال، لأنهم كانوا يزنون الدنيا بالميزان الصحيح، فلا يجدونها تساوي جناح بعوضة أو ما دونه، ولا يعنيهم منها إلا أن يعبروها بسلام إلي آخرة خير وأبقي. علم عبيد الله عبد الله بن عتبة رضي عنه إن تلميذه عمر بن عبد العزيز تحدث مرّة بلهجة غير مقبولة عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
كان الصبي يردد ما اعتاد عليه الأمويون منذ وقع الخلاف علي الحكم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فأعرض عبيد الله عن تلميذه طويلا ثم نهره قائلا: متي علمت أن الله سخط علي أهل بدر -ومنهم علي- بعد أن رضي عنهم ؟! فهم عمر ما يقصده شيخه فهتف: معذرة إلي الله ثم إليك ، والله لا أعود إلى مثلها أبدا، فلم يسمعه أحد بعد ذلك يذكر عليا إلا بكل خير.
( 5 )
مات عبد العزيز بن مروان في السنة الخامسة والثمانين بعد الهجرة النبوية الشريفة. ورغم تأثر عبد الملك بن مروان بوفاة أخيه ونائبه علي مصر، إلا أنه لم يستطع أن يكتم فرحته بالفرصة التي واتت ابنه الوليد ليكون وليا للعهد بعد وفاة عمه. إنه الحرص على الملك والتشبه المرذول بالفرس والرومان، وليست الخلافة التي كانت في عهود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم. وسرعان ما انتهز عبد الملك الفرصة فأرسل إلي نوابه في البلاد قبل إن تجف الدماء في عروق أخيه المسجي يأمرهم بأخذ البيعة لابنه ، فبايعت الرعية خشية سيوف الجبابرة في دمشق و سائر بلاد المسلمين حتى مكة والمدينة ، لكن رجلا واحدا في مدينة الرسول العظيم أبي البيعة الجائرة بحد السيف. إنه عالم المدينة التابعي الجليل سعيد بن المسيب رضي الله عنه . أنكر الرجل الصالح ما يفعله عبيد السلطة والجاه الذين اّثروا أنفسهم وأهليهم بالأموال والخراج والغنائم، ولم يجعلوا حدا فاصلا بين أموالهم الخاصة وأموال المسلمين، وجاهر بنقد سلوكيات الأسرة الأموية الحاكمة، ودعا الناس إلي رفض البيعة التي لا تقوم علي أساس من الاختيار الحر الهادف إلي تحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين. وهنا أسفرت السلطة الغاشمة عن وجهها القبيح، فأرسل عبد الملك بن مروان إلي نائبه علي المدينة هشام بن إسماعيل يأمره بالقبض علي العالم الجليل والتنكيل به علي مرأى ومسمع من أهل مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ليكون عبرة للناس فيبادروا بالامتثال والطاعة للسادة الحكام.
ورأي الفتي اليافع عمر بن عبد العزيز مشهدا أسخطه وملأ نفسه الذكية كربا وأسي.
اقتاد جنود الوالي الغشوم هشام بن اسما عيل العالم الجليل ذات صباح إلي وسط المدينة مكبّلا بالأغلال، وراحت سياطهم الفاجرة الآثمة تلهب ظهره الطاهر في جنون وحشي ،والناس يرتعدون هلعا، وكلهم يأسي لما أصاب الشيخ المبارك، لكن أحدا لا يجرؤ علي التصدي للطغاة الذين سفكوا الدماء وأذلوا الرقاب في سبيل تنفيذ رغبات ملوك بني أمية .
لم يكتفوا بجلد ولي الله أمام أهله وتلاميذه، بل ألبسوه ثيابا من الشعر ووضعوه علي ظهر جمل أجرد وطافوا به مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم حتى قالت له امرأة في حسرة: ما هذا الخزي يا سعيد؟! تقصد أن تلومه علي ما صنعه بنفسه، فرد عليها في يقين موضحا لها أن الخزي ليس في تعرضه للعذاب والبطش، ولكن الخزي والذل في طاعة الحكام الظالمين وتلبية أوامرهم ورغباتهم . و قد أودع الفقيه العظيم سجن المدينة مرة أخري، لكنه أصر علي موقفه المناهض للظلم و الباطل والطغيان. ولعل هذا كان أعظم درس تلقاه عمر بن عبد العزيز من أستاذه ومعلمه سعيد بن المسيب رضي الله عنه طول فترة مكثه بالمدينة.
إن العالم أو الداعية لا ينبغي له أن يشتري بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا تافها من دنيا الناس الفانية، وإنما عليه أن يقف- ولو وحيدا- ليصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر مهما ناله من بطش و أذى، وهذا أفضل الجهاد عند الله عز وجل.
( 6 )
استدعي عبد الملك بن مروان ابن شقيقه عمر بن عبد العزيز إلي دمشق بعد وفاة أبيه. كان عمر قد بلغ مبلغ الرجال وتجمعت فيه كل الصفات التي ترجي في الشباب وهى التقوى والعلم والفتوة والجمال وغني النفس و المال. وماذا يبغي عبد الملك بن مروان بعد ذلك من شروط فيمن يتزوج ابنته الحسناء فاطمة ؟ إن عبد الملك بما لديه من فطنة وفراسة كان يرى في عمر دون باقي أبناء أخوته وأقاربه من الأمويين نموذجا نادرا، ولهذا كان طبيعيا أن تقع عينه الخبيرة الفاحصة عليه هو بالذات ليرشحه زوجا لأكرم الناس عليه وأحبهن إليه وأحظاهن لديه وهي ابنته الوحيدة فاطمة.
وكان عبد الملك يقرب عمر إليه ويدنيه من مجلسه ولا يخفي إعجابه بعلمه وتقواه. ولم ينس قبل وفاته أن يوصي ابنه الوليد بأخته فاطمة وزوجها عمر بن عبد العزيز. كما أثرها بأغلى الحلي والجواهر التي كانت تحمل إليه من غنائم الفتح في بلاد فارس والروم وافريقية وغيرها.
علي أن هذا لم يؤثر علي مشاعر عمر رضي الله عنه الذي كان ينقم علي عمه إسرافه مثل غيره من حكام بني أمية في قهر الرعية وكثرة المظالم التي ارتكبها في سبيل المحافظة علي عرشه والقضاء علي شتئ الحركات المناوئة لحكمه. كما لم ينس عمر بن عبد العزيز أن عمه جاء بالطاغية الثقفي الحجاج بن يوسف ، وأطلق يده في البطش بكل من يخالف النظام الأموي .وحتى أم القرى البلد الحرام لم يتورع جنود الحجاج عن انتهاك حرمتها ، وضربوا الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وأحرقوا أستارها، وأفسدوا موسم الحج، وقتلوا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه لمجرد أنه رفض مبايعة أحد بعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
كذلك بطش الحجاج - برضاء من عبد الملك - بأهل العراق والمدينة وبلاد الفتح في فارس وما وراءها، كما لم يسلم هشام بن إسماعيل نائب عبد الملك علي المدينة وغيره من الولاة من ارتكاب العديد من الجرائم المنكرة والمظالم الفاجرة نزولا علي أوامر بني مروان.
وقد فزع عمر بن عبد العزيز عندما بلغته مقولة عمه عبد الملك: قد أصبحت لا أفرح بالحسنة إذا فعلتها ، ولا أحزن للسيئة إذا ارتكبتها ، فقد أدرك أنها دليل كما قال سعيد ابن المسيب رضي الله عنه علي موت قلبه وأنه صار من الغافلين.
كذلك كظم عمر غيظه وهو يسمع عمه قبيل موته يوصي ولي عهده الوليد بتكريم الحجاج بن يوسف طاغية العراق بحجة أنه هو الذي:" مهد لبني مروان البلاد وقهر الأعداء وخلصّ لعبد الملك وبنية الحكم وشتت الخصوم"!! ثم وهو يوصيه أيضا قائلا له: إذا أنا مت فادع الناس إلي بيعتك. فمن أبي فاضرب عنقه بالسيف !!
يا إلهي. حتى وهو علي فراش الموت لا يتورع عن إسداء النصائح الآثمة والأوامر الفاجرة إلي ولي عهده بأن يواصل السير علي درب القهر والظلم والطغيان، فيكرم السفاح الدموي الثقفي ، ويطيح برقاب المسلمين إذا رفضوا توارث الحكم والاستئثار بالسلطة!! لهذا لم يكن عجيبا أن تسودّ وجوه هؤلاء بعد موتهم وأن يندم أحدهم ويلطم وجهه بيديه- وهو عبد الملك نفسه- ويلوم نفسه لأنه قبل الحكم وفرّط في طاعة الله عز وجل.
( 7 )
استهل الوليد بن عبد الملك عهده بالبدء في بناء المسجد الأموي الكبير في دمشق عاصمة الخلافة في ذلك الوقت. وقد استمر تشيد هذا الصرح الحضاري الهائل طوال فترة خلافة الوليد وهي تسع سنوات ونصف السنة. ويروي أنه لم ينفق علي بناء المسجد درهما واحدا من أموال المسلمين وإنما انفق عليه 11 مليون دينارا من ماله الخاص. وأبي بشدّة أن يتحمل بيت المال شيئا من تكاليف بناء المسجد. ورغم اجتهاده في استمرار الفتوحات الإسلامية وإرسال الجيوش بصفة دائمة إلي بلاد الروم وأفريقيا وغيرها، إلا أنه كان لا يتورع عن قمع المعارضين بقسوة وشراسة تماما كما أوصاه أبوه وهو علي فراش الموت. وشاء قدر الله إن تمر بالناس نفحات من رحمته ، فقرر الوليد عزل هشام بن إسماعيل عن إمارة مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم في سنة87 بعد الهجرة، وعيّن بدلا منه ابن عمه وزوج أخته عمر بن عبد العزيز. كان عمر قد بلغ خمسا وعشرين سنة عندما ركب بعيره في شهر ربيع الأول من هذا العام إلي يثرب ليباشر أعباء الولاية. نزل الوالي الشاب دار جده مروان بن الحكم .وجاء الناس أفواجا يصافحون الأمير الجديد بسعادة بالغة، و ألسنتهم تلهج بحمد الله تبارك وتعالي أن جعل لهم بعد العسر يسرا، ورفع عنهم ظلم الطاغية هشام بن إسماعيل، واستبدله بالفتي التقي الذي تربي بين ظهرانيهم وتشرّب العلم والورع من كبار علمائهم وفقهائهم. و كان أول ما فعله عمر رضي الله عنه بعد صلاة الظهر بالمسجد النبوي الشريف هو دعوة عشرة من كبار فقهاء المدينة هم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو بكر بن سليمان بن خليفة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد بن ثابت.
دخل العشرة الكبار إلي مجلس الأمير الشاب ليعرفوا لماذا دعاهم وليسمعوا كيف يحكم هذا الفتي المدينة، وهو الذي توسموا فيه الخير والصلاح منذ جاء إلي مجالسهم طفلا غضا يطلب العلم. حمد عمر ربه وأثني عليه بما هو أهل له ثم قال موجها حديثه لأستاذته العشرة:" إني لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم .فإن رأيتم أحدا يتعدّى أو بلغتكم عن عامل لي مظلمة- ظلما للرعية- فاستحلف من بلغه ذلك أن يطلعني عليه ". بهذه العبارات المشرقة بدأ الأمير الشاب ولايته علي مدينة رسول الله. لقد اختار مجلسا للشورى يضم كبار الفقهاء ووجهاء المسلمين من ذوي العلم والكفاية والعدالة والمكانة ليشاركوا في تحمل المسئولية ويشيروا عليه بالرأي الصواب، لأن يد الله مع الجماعة، ومن استبد برأيه فقد هلك. وهو أيضا يشدّد التنبيه علي هؤلاء الصالحين الصادقين ألّا يتركوا واقعة تبلغ مسامعهم عن أي عامل من عماله يظلم فيها أحدا من الناس إلا أبلغوها له شخصيا، حتى يتخذ فيها إجراء رادعا يعيد الحق إلي أهله، ويعاقب العامل الظالم بشدّة كي لا يعيد الكرّة . خرج العلماء العشرة من مجلس عمر بن عبد العزيز وهم يدعون له بالتوفيق والعون والرشد. وكانت الخطوة التالية التي أقدم عليها عمر هي تمكين أهل المدينة من نيل حقهم المشروع في القصاص من الحاكم الظالم هشام بن إسماعيل الذي أذاقهم ألوان العذاب والتنكيل طيلة 4 سنوات. ومن آيات أولياء الله الصادقين أنهم يعفون عند المقدرة ولا يجزون بالسيئة السيئة، بل يحسنون إلي من أذاهم وبطش بهم ،وهذا ما فعله العالم الجليل سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين رضي الله عنهما بهشام بن إسماعيل.
( 8 )
وربما كان من خصائص حكام بني مروان أنهم خلطوا أعمالا صالحة بأخرى سيئة ولم يخل أحدهم من مناقب حسنة وإن أساء وتعدي وظلم.
وهم في جميع الأحوال بشر ابتلاهم الله بالرعية وابتلي الرعية بهم وابتلي الطائفتين بالدنيا . وليس مستحيلا أن تكون للجواد الأصيل كبوة وربما كبوات ، وأمر الجميع إلي الله إن شاء عذب وإن شاء غفر . لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهد الأمويين بصفة عامة، وكان الجهاد في سبيل الله فريضة ألزم بها الخلفاء أنفسهم وجيوشهم ، وأوصوا بها أولادهم ومن يأتي بعدهم، واجتهدوا جميعا في العبادة والعلم ومحاربة الفتن والخرافات والأباطيل ونشر دعوة الإسلام وتعظيم شعائر الله. وعلي سبيل المثال فقد كان عبد الملك بن مروان فقيها من المعدودين بالمدينة قبل توليه الخلافة، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرشحه للإفتاء وتدريس العلم . وقال أبو الزناد: فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان. وفي عهد عبد الملك اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بضم بلاد ومناطق من المغرب وأرمينية و بلاد الفرس و الروم. وكان ابنه الوليد حريصا علي استمرار الجهاد في عهده، وفتحت علي يديه الهند والأندلس وأفغانستان وأذربيجان وغيرها . وكان من أكثر الخلفاء اهتماما بالتشييد والعمران وخاصة بناء المساجد ومنها المسجد الأموي العريق بدمشق، والمسجد النبوي الذي أصدر أمره إلي واليه علي المدينة – عمر بن عبد العزيز- بإعادة بنائه وتوسعته بإضافة حجرات أزواج الرسول صلي الله عليه وسلم وشراء ما حوله من الأراضي والبيوت بثمن عادل أو نزعها من أصحابها-بثمن أيضا إن رفضوا البيع - في سبيل توسيع مساحة مسجد النبي صلي الله عليه وسلم.
وكعادته جمع عمر بن عبد العزيز من بقي حيا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم و فقهاء المدينة العشرة وكبار الصالحين وذوي المكانة في يثرب، وقرأ عليهم كتاب الوليد. كان هدم المسجد النبوي أمرا شاقا علي النفوس، وقال الفقهاء و الصالحون أن حجرات زوجات الرسول صلي الله علية وسلم المتواضعة يجب أن تبقي علي حالها ليعتبر بها الحجّاج والزوار القادمون من شتي بلاد المسلمين ويقتدون بما تمثله من الزهد والبساطة والقناعة من الدنيا باليسير، فقد كانت حيطانها من الطوب اللبن المصنوع من الطين الذي لم يدخل النار، وكانت سقوفها من جريد النخل، وعلي أبوابها المسوح- أثواب مصنوعة من الشعر- فأراد الفقهاء أن تبقي على حالها ليري الناس بيوت نبيهم البسيطة فيزهدوا في الدنيا ولا يعمّرون فيها إلا بقدر الحاجة، وهو ما يستر ويكن.و قال العلماء في ردهم علي أمر الوليد:" إن البنيان العالي هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة وكل طويل الأمل في الدنيا راغب في الخلود بها. وإزاء هذا الرأي توقف عمر رضي الله عنه وبعث إلي الوليد بما أجمع عليه العلماء وأهل الرأي والشورى. لكن الوليد رفض الانصياع لرأي الفقهاء ونفّذ رغبته هو في هدم المسجد وإعادة بنائه علي أحدث طراز في ذلك الوقت مع توسيعه بمقدار مائتي ذراع طولا وعرضا. وللإنصاف نقرر أن الوليد كان أبعد نظرا وأصوب رأيا، فقد كثر الناس واحتاج الحرم إلي عدة توسعات فيما بعد كما رأينا في عصرنا هذا . وما كانت تلك التوسعات ممكنة إلا بهدم الحجرات وإضافة مساحتها إلى المسجد. كما أنه لا حرمة لمبنى أو مكان في الإسلام إلا الكعبة المشرفة والمسجد النبوي والقبر الشريف وليس لحجرات زوجات النبي في ذاتها.
وقد تولي عمر بن عبد العزيز إمرة الحج خلال العامين الأولين من خلافة الوليد وصلي بالناس صلاة الاستسقاء فأمطرت مكة وما حولها وأخصبت أرضيها بصورة غير معهودة، ولعلها بركات الوالي العادل أشج بني مروان.
( 9 )
سار عمر بن عبد العزيز في أهل المدينة سيرة جده العظيم عمر بن الخطاب. وسعد به الصحابة والتابعون لما وجدوا فيه من القدوة الصالحة لغيره من الحكام، وعوضا للمسلمين عما يفعله الحجاج بن يوسف وغيره من عمال الوليد بن عبد الملك .. قال عنه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: " ما صليت وراء إمام-بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم- أشبه صلاة بالرسول صلي الله عليه وسلم من هذا الفتي" يقصد عمر بن عبد العزيز أمير المدينة .وقال زيد بن أسلم رضي الله عنه: كان عمر يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود .. وجاء إليه رجل صالح ذات يوم فأخبره بأنه رأي النبي صلي الله عليه وسلم في المنام، وكان أبو بكر رضي الله عنه يجلس علي يمينه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس علي يساره وأمامهم رجلان يختصمان وبين يدي الرسول صلي الله عليه وسلم كان عمر بن عبد العزيز جالسا.. وقال النبي صلي الله عليه وسلم لابن عبد العزيز:" يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين – أبو بكر وعمر بن الخطاب ". ولم يطمئن عمر بن عبد العزيز حتي أقسم له الرجل أنه رأي هذا في منامه وتحقق من كل كلمة أمره بها الرسول صلي الله عليه وسلم .. حينئذ لم يتمالك عمر بن عبد العزيز وجعل يبكي مشفقا علي نفسه من ثقل التبعة، ووعورة الطريق، وقلة الزاد، وبعد السفر .. ورغم كثرة الصحابة والتابعين الأجلّاء في مكة والمدينة كان عمر بن عبد العزيز- رغم حداثة سنه- يؤم الناس في الحج طيلة سنوات ولايته علي مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ، اللهم إلا سنة واحدة حج فيها بالناس الوليد بن عبد الملك ، وصحبه عمر خلالها أيضا .. وقد استطاع عمر رضي الله عنه أن يلطّف من حدّة الوليد بن عبد الملك ، وأن يقنعه بالتخلي عن إيذاء كبار الفقهاء والصالحين الذين رفضوا بيعته ، علي خلاف ما كان الحجاج الخبيث يفعل زلفى ونفاقا للوليد .
خرج أشراف المدينة لاستقبال الوليد بن عبد الملك أثناء مروره بها في طريقه إلي الحج، ولم يخرج معهم فقيه المدينة سعيد بن المسيب رضي الله عنه الذي تعرض للضرب والسجن والتشهير لرفضه مبايعة الوليد. وأراد الوليد أن يصلي بالمسجد النبوي الشريف فأخلاه حراسه من الناس، لكن أحدا لم يجرؤ علي إخراج عالم المدينة سعيد بن المسيب من المسجد .. حدث هذا رغم أن العالم الجليل كان يرتدي في تلك اللحظات ثوبا رخيصا ثمنه خمسة دراهم !! ولكن متي كان للثياب دور في تقييم الرجال ، أو احتساب مكانة العلماء وأقدار أهل الطاعة والتقوى ؟ تجاسر أحد الحراس فقال لسعيد: تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم .. غضب ولي الله من جرأة زبانية الحاكم ، وسوء أدبهم في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم .إذ
لم يفعلها أحد من الخلفاء الراشدين ، فلم تكن الشرطة تطرد العامة من المسجد النبوي ليصلي فيه أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي بن أبي طالب .. ومن هو الحاكم؟ أنه داخل المسجد أو خارجه ليس إلا واحدا من المسلمين، لا فضل له علي الآخرين ، ولا يجوز له أن يتميّز علي أفقرهم بشيء سوي التقوى والعلم وحسن الأدب مع الله .. وهكذا أصرّ سعيد علي عدم طاعة الأوامر ، ورفض أن يغادر المسجد مهما حدث . استولي الرعب علي الحراس فقد كان الوليد جبارا رهيبا إذا غضب ،وخشي الجميع أن ينقم الوليد علي العالم الجليل عزّة نفسه ، وقلة اكتراثه بالحاكم ، وبصفة خاصة لأنه رفض أن يبايعه من قبل. ولم يكن ابن المسيب يحب عبد الملك ، وأعلن رفضه القاطع لانتقال السلطة بالميراث البغيض الذي لا شوري فيه ولا رأي للمسلمين. وكان قد رفض أيضا تزويج ابنته الحسناء للوليد بن عبد الملك وأنكحها تلميذا فقيرا من تلاميذه هو كثير بن وداعة وكان مهرها درهمان فقط!! . مما تسبب في ازدياد سخط عبد الملك وولده علي سعيد .
دخل الوليد إلي المسجد النبوي ومعه عمر بن عبد العزيز . صلي الرجلان في مختلف أرجاء المسجد ، وجعل الوليد يتنقل هنا وهناك ليدعو ويستغفر ربه، وعمر يحاول أن يبعده عن الموضع الذي كان سعيد بن المسيب جالسا فيه وحده .. تلفت الوليد أثناء تفقده للمسجد فرأي الشيخ الجليل .. سأل رفيقه : من هذا؟ أهو سعيد بن المسيب ؟ أجاب عمر بن عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين ، ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك – قال عمر ذلك كي لا يغضب الأمير علي الشيخ – لم يصدّق الوليد وقال لعمر: قد علمت بغضه لنا . فسارع عمر رضي الله عنه بالنفي ، وأثني علي العالم الجليل، وأفاض في سرد مناقبه وسجاياه حتى أقر الوليد بفضله ومكانته . وقال عمر مدافعا عن الفقيه المسنّ: يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – يعني أن ضعف بصره جعله لا يري الخليفة وهو يدخل المسجد فلم يقم له – فرد الوليد : نحن أحق بالسعي إليه .
ورأي الناس يومئذ عجبا. الوليد بن عبد الملك أقوي حكام الأرض في تلك الفترة ، الذي فتحت جيوشه معظم قارتي أسيا وأفريقيا وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا ، يقف بكل قوته وسلطانه وأمواله خاشعا مترفقا أمام كهل أعزل عليه ثوب بخمسة دراهم !! ويلقي الوليد عليه السلام، فيرد الشيخ الجليل السلام وهو جالس في موضعه لم تهتز في جسده شعرة !! ولم الدهشة ؟ أليس هو نفسه العالم والفقيه الذي رفض من قبل أن يزوّج ابنته للوليد ابن عبد الملك بن مروان وجلب علي نفسه الأذى في ذلك الحين بسبب رفضه لهذه المصاهرة المشرّفة بمقاييس أهل الدنيا!!؟
سأله الوليد: كيف حال الشيخ؟ رد سعيد بن المسيب: بخير والحمد لله وحده.. كيف حال أمير المؤمنين؟ رد الوليد: بخير والحمد لله.. بهذه العبارات القصيرة انتهت المقابلة، ومضي الوليد من المكان وهو يردد مشيرا إلي سعيد بن المسيب: هذا فقيه الناس!! إنه الإسلام العظيم الذي يربّي في النفوس العزة والكرامة والشجاعة، فلا ترهب إلا الله ولا تخضع لسواه.
( 10 )
ويبدو أن الحجاج بن يوسف الثقفي عزّ عليه أن يسمع ثناء الناس ودعوا تهم لعمر بن عبد العزيز، بينما كانوا يصبّون عليه لعناتهم ليل نهار لما يسفك من الدماء ويستحل من المحرمات وإن كان مجتهدا متعبّدا فيما دون ذلك .. اشتعل حقد الطاغية الثقفي أكثر وكاد صدره ينشق غيظا عندما سمع برأي عمر فيه ، وعلم أنه أرسل إلي الوليد يطالبه بإبعاد الحجاج لكف الظلم عن الرعية. وجاء بالرسالة علي لسان عمر:" إن أهل العراق في ضيم وضيق مع الحجاج لظلمه وغشمه، ولو جاءت كل أمة بخطاياها ، وجاء بنو مروان بالحجاج وحده لكفاهم". وطالب الحواري الصالح ابن عمه – الخليفة – بعزل الحجاج والقصاص منه ورد حقوق المسلمين المغتصبة إليهم. وكعادة كل الظالمين المستبدين، تشبث الحجاج بكل قواه بموقعه وكرسيه ، ولجأ إلى الدس والوقيعة بين الوليد وعمر بن عبد العزيز ليبقي في منصبه .. كتب الطاغية إلي الوليد بن عبد الملك يحذره من خطورة استمرار عمر بن عبد العزيز في ولايته علي المدينة ومكة ، زاعما أن سياسة عمر من شأنها أن تفسد الرعية علي الخليفة ، ولا تستقيم معها أحوال الدولة ! وقال طاغية العراق للوليد:" إن عمر ضعيف عن إمرة الحرمين ، وهذا ضعف في الحكم، فاجعل علي الحرمين- مكة والمدينة – من يضبط أمرهما"!! .. واّثر الوليد الدنيا والهوى فأبقي علي السفاح الثقفي ، وعزل والي المدينة العادل!!
كذلك أغري الحجاج بن يوسف أميره الوليد بن عبد الملك بخلع أخيه سليمان من ولاية العهد ليعهد بدلا منه إلى ابنه عبد العزيز بن الوليد .. إنها ذات اللعبة الخبيثة التي فشل في إتمامها مع عبد الملك بن مروان وأخيه عبد العزيز !! وقد فشل هذه المرة أيضا بسبب رفض عمر بن العزيز. وانتهز الحجاج الفرصة السانحة فألهب صدر الوليد وحرّضه علي ابن عمه، ومازال به حتى أمر بحبسه في مكان سدت جميع منافذه ليموت جوعا وعطشا !! وتسامع الناس بما فعل الوليد بزوج أخته وابن عمه حاكم المدينة السابق الذي تحدثت بورعه وعلمه وتقواه الركبان في البوادي ، والمنتديات في الحضر.
وبدأت بوادر ثورة شعبية هائلة تلوح في الأفق، ونقل جواسيس الوليد إليه ما يتحدث به الناس في سخط متزايد عن اعتقال عمر بن عبد العزيز لوقوفه ضد الظلم والطغيان. ورأى الوليد أجواء البلاد مليئة بسحب قاتمة من غضب يوشك أن يمسي جحيما لا يبقي ولا يذر، فاضطر إلي إخلاء سبيل ابن عمه -بعد ثلاثة أيام فقط - قبل اندلاع الثورة فى دمشق ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين.
وشاء القدر أن تعم الفرحة بعد ذلك بقليل بهلاك الحجاج الثقفي – في سنة 95هـ - وبموته انهار ركن كبير من أركان دولة بني مروان واستراح أهل العراق أخيرا من إجرامه وطغيانه .
كما لم يلبث الوليد بن عبد الملك أن مرض وتوفي في يوم السبت منتصف شهر جمادى الآخر عام 96 هـ. وحمل جثمان الوليد إلى قبره . وخطب عمر بن عبد العزيز الذي صلي عليه وتولي دفنه في الناس ووعظهم قائلا:" هذا الوليد بن عبد الملك يلقي ربه .. فاليوم ننزله غير موسد ولا ممهد، قد خلف الأسلاب، وفارق الأحباب، وسكن التراب ، وواجه الحساب، فقيرا إلي ما قدم ، غنيا عما أخر".
( 11 )
تولي الخلافة بعد الوليد أخوه سليمان بن عبد الملك واستهل عهده بتعيين ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشارا ونائبا له .. وقد كان سليمان عاقلا عادلا شديد التواضع يريد الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولم يكن يلهث وراء مجد شخصي زائل ، ولهذا لم يجد عيبا في أن يصارح ابن عمه وزوج أخته عمر بن عبد العزيز قائلا :" إنّا قد ولينا ما تري، وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة الناس فمر- أصدر أمرا به – فليكتب ". وقد أعطي بذلك لمستشاره عمر بن عبد العزيز- تفويضا صريحا بلا حدود لاتخاذ ما يراه صالحا من قرارات وتنفيذه علي الفور.. وكان عمر رضي الله عنه وزير صدق عند حسن الظن به ، فبدأ رضي الله عنه بنواب الحجاج علي البلاد فعزلهم وأراح الناس من ظلمهم، وأمر بإطلاق جميع السجناء والأسري الذين اعتقلهم الحجاج الثقفي بلا ذنب . وكان عددهم يزيد علي 81 ألف سجين منهم 30 ألف امرأة !! وقرر عمر تخصيص جزء كبير من موارد الدولة للإنفاق علي الفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين، وخاصة في العراق التي حرم الحجاج معظم أهلها من أنصبتهم المستحقة في بيت المال. وأمر برد الصلاة إلي ميقاتها. وكان الحكام من بني مروان يؤخرون الصلوات عن أوقاتها إتباعا للهوى بلا نص شرعي أو سنّة ثابتة . وكان من أوامره إرسال جيش كبير لغزو القسطنطينية وجهاد أهلها الذين بغوا علي جيرانهم من المسلمين .. واستمر هذا حال الخليفة ونائبه طوال فترة حكم سليمان- سنتان وثمانية أشهر – وقد شهد الكثيرون لسليمان بن عبد الملك بالتقوى والصلاح، وذكروا أنه كان شديد الورع يحافظ على الصلوات، و ينهي عن الغناء لأنه رسول الشيطان ، ويبكي من خشية الله .
وقد حج رضي الله عنه بالناس سنة 97 هـ ، فعجب لكثرة الحجيج ، وقال لعمر بن عبد العزيز :ألا تري هؤلاء الحجّاج الذين لا يحصي عددهم إلا الله ولا يسع رزقهم غيره؟! فقال له عمر : يا أمير المؤمنين هؤلاء رعاياك اليوم، وهم خصماؤك غدا أمام الله تعالي. فبكي سليمان بحرارة وقال: بالله استعين.
ثم خرج سليمان بن عبد الملك إلي مرج دابق بعد خروج جيش أخيه مسلمة بن عبد الملك لفتح القسطنطينية وتأديب الرومان الذين غدروا بجانب من جيش المسلمين ، وأوهموهم بالمصالحة والأمان، ثم قتلوا عددا منهم وأسروا الباقين. وأقسم سليمان ألا يرجع إلي دمشق حتى يفتح الجيش مدينة القسطنطينية أو يقبضه الله إليه قبل ذلك . وشاء القدر أن تتحقق الثانية، إذ أصيب سليمان بالحمى وأحس أسفا باقتراب أجله قبل أن يأتي خبر النصر.
وجاء إليه الوزير الصدوق رجاء بن حيوة فسأله سليمان : لمن يعهد بأمر المسلمين؟ أجاب رجاء : إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولّي علي المسلمين رجلا صالحا. قال سليمان : ما تقول في ابني داود ؟ أجاب رجاء : إنه غائب عنك – كان في جيش مسلمة الذي توجه لفتح القسطنطينية – ولا ندرى هل حي أو ميت .. عاد سليمان يرشح ابنا له صغيرا لم يبلغ الحلم فعارضه رجاء بن حيوة حتى صرفه عن ذلك . سأله سليمان : ما تري في عمر بن عبد العزيز؟
استبشر رجاء خيرا وقال: أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله . صاح سليمان: هو والله علي ذلك – يقصد أنه سينفذ ترشيحه لعمر بن عبد العزيز وإن رفض إخوته أبناء عبد الملك – وهنا فكر الوزير الذكي لبعض الوقت ، ثم قال لسليمان : أري أن تجعل ولاية العهد بعد عمر بن عبد العزيز ليزيد بن عبد الملك ليرضي بذلك بنو مروان . ووافق سليمان وكتب عهده لعمر واستدعي كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة فقال له : اجمع أهل بيتي ومرهم فليبايعوا علي ما في هذا الكتاب – مغلقا – فمن أبى منهم فاضرب عنقه. وجاء إخوة سليمان والأمراء والوجهاء وأبناؤهم وأبناء عمومته ليزوروه وفوجئوا به يأمرهم بالبيعة لمن عهد إليه في الكتاب المختوم قبل أن يموت.
( 12 )
أما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد أدرك بفراسته أنه هو المرشح ولا أحد سواه، إذ لا مبرر لإخفاء اسم خليفة سليمان متى كان أحد أخوته أبناء عبد الملك، فهم لن يتصارعوا طالما بقيت لأحدهم.. وكان سبب تخوف عمر رضي الله عنه من المسئولية الثقيلة رؤيا زار فيها النبي صلي الله عليه وسلم في روضة خضراء ، وأخبره بأنه سيلي أمر الأمة ، وحذّره من الوقوع فيما وقع فيه من سبقوه ، وخاصة إراقة دماء المسلمين. وفي رؤيا أخري قال له الرسول صلي الله عليه وسلم : ادن – اقترب يا عمر، فأطاع عمر واقترب منه حتى خشي أن يصطدم به، فقال له صلي الله عليه وسلم :" إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين " وأشار الي كهلين بجواره ، فسأله عمر : ومن هذان ؟ فأجاب صلي الله عليه وسلم : " هذا أبو بكر وهذا عمر بن الخطاب ".
حينئذ أحس عمر بن عبد العزيز أنه هو الذي استقر رأي سليمان علي ترشيحه للخلافة ، فذهب إلي رجاء بن حيوة وقال له : أنشدك الله وحرمتي ومودتي أن تعلمني إن كان كتب لي ذلك – الخلافة – حتى أستعفيه منها قبل أن يأتي حال لا أقدر فيه علي ما أقدر عليه الآن. لكن رجاء رفض بإصرار أن يطلع عمر علي شيء مما كتبه سليمان في عهده المختوم . ثم جاء هشام بن الملك إلي رجاء فقال له: يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، فأخبرني عن هذا الأمر – الخلافة – إن كانت إليّ علمت وان كان لغيري نظرت ما يمكنني عمله ، فما مثلي يفوته هذا .. ورفض الوزير الأمين أن يطلع شقيق الخليفة أيضا علي شيء . وعندما صعدت روح سليمان بن عبد الملك إلي الملأ الأعلى ، جاء كعب بن حامد صاحب الشرطة ورجاء بن حيوة فجمعا الناس في المسجد الكبير بدابق وأخذا البيعة مرة ثانية لمن في الكتاب. تغيرت وجوه بني مروان عندما قرأ عليهم رجاء بن حيوة عهد سليمان بن عبد الملك إلي عمر بن عبد العزيز . وغضب هشام بن عبد الملك وكان أكثر إخوته طمعا في الخلافة ، وأعلن رفضه مبايعة عمر بن عبد العزيز.
نهره رجاء بن حيوة رضي الله عنه ، وقال له بحزم :" أضرب عنقك والله .. قم فبايع" .. وهدأ الباقون عندما سمعوا أن ولاية العهد ليزيد بن عبد الملك ، فقاموا جميعا ليبايعوا عمر بن عبد العزيز .. كان عمر رضي الله عنه جالسا في مؤخرة المسجد مشفقا يرتجف مما يسمع.
عندما تأكد أنه ابتلي بالخلافة ، راح يردد:" إنا لله وإنا إليه راجعون "!! إنها قولة المؤمن إذا أصابته مصيبة ، فهل المنصب الذي تطمح إليه أبصار وأفئدة الكثيرين ، ويتصارعون عليه ، ويتفانون من أجله ، يمثل عند هذا الشاب التقي مصيبة يسترجع ويئن لوقعها عليه ؟! أجل .. أنها لكبري المصائب والتبعات ، أن تلقي أحمال مئات الملايين من المسلمين وأهل الذمة وهمومهم وآلامهم وأمالهم علي كتفي رجل واحد كائنا من كان .. وقد كان عمر رضي الله عنه يعلم أنها أمانة عسيرة الحساب ، شديدة العناء ، لا قبل لبشر بها إلا من أعان الله وقليل ماهم.
حاول أن يقوم من مكانه فأبت قدماه أن تحملانه .. مكث برهة يغالب نفسه المأخوذة من رهبة المسئولية. أدرك رجاء بن حيوة بفطنته ما حدث للأمير، فأمر الحراس بحمله حتى وضعوه علي المنبر، وأمر الناس فأقبلوا متهللين يبايعون الخليفة الجديد ، ونهض عمر بعد فترة ليخطب في الناس .. إنه ما زال يحاول تخليص عنقه من أغلال الحكم وأهوال السلطة ، ومن حسراتها وأحزانها يوم القيامة إلا من رحم الله .. وقد كان يأخذ علي من قبله أنهم يتداولون الحكم فيما بينهم بغير شوري أو اختيار حر من المسلمين، فكيف يقبل اليوم لنفسه ما أنكره علي غيره بالأمس ؟
وتكلم أخيرا فكان أول ما قاله :" أيها الناس إني لست بمبتدع ، ولكني متبع ، وإن من حولكم من الأمصار – الأقاليم – والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم رفضوا فلست لكم بوال .. ويروي أيضا أنه أعفي من بايعوه وطالبهم باختيار وال آخر بدلا منه !! إنه الورع والتعفف وعمق الفقه والبصيرة .. فإذا كان الإسلام ينهي الفرد عن إمامة المصلين – في الصلاة – بغير رضا منهم ، فكيف يتولى الخلافة عليهم بدون أذنهم ورضاهم ؟ ألمجرد أن الخليفة السابق اختاره لهذا المنصب؟! لقد أن الأوان ليعود الحق إلي نصابه ، ويترك اختيار الحاكم للرعية ، كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده.. ارتج المسجد بصيحات مدوية تجدد البيعة للأمير الراشد ، وتلح عليه في التراجع عن موقفه ، فما يصلح لها غيره، وما يرتضون به بديلا، وقد علموا أنهم إذا تركوه يعودون إلي سابق العهد المرير من الملك العضوض و الاستبداد البغيض الذي نغّص علي الأتقياء دينهم وعيشهم. وعندما أيقن عمر أنه لا مفر أمامه من قبول المسئولية خطب في الحاضرين مرة أخرى قائلا " أيها الناس .. من صحبنا فليصحبنا بخمس وألا فليفارقنا .. يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفع حاجته ، ويعيننا علي الخير بجهده ، ويدلنا من الخير علي ما لا نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا أحدا ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه " .
بهذه الكلمات البليغة الموجزة وضع عمر دستور التعامل بينه وبين رعيته وعماله وحاشيته .. وعندما سمع الناس ما قال الخليفة الجديد أيقن العلماء والصالحون والزهاد أنهم وجدوا أخيرا بقية من رشد الخلافة الأولي وتقواها، ويئس الظالمون والمنافقون وبطانة السوء ، وقام كل مظلوم ومقهور ومجني عليه يبغي القصاص ورد المظالم علي يدي راشد بنى مروان .
( 13 )
بعد دفن سليمان بن عبد الملك جاء الحراس بمراكب الخليفة ، وهي جياد ثمينة عليها فرش وزينة فاخرة .. تطلع عمر إلي الخيول وهو يتمتم :" ما شاء الله لا قوة إلا بالله ".. كل هذه الخيول وزينتها باهظة الثمن من أجل رجل واحد !! حتى لو كان هو حاكم المسلمين ، فماذا عليه لو قنع بدابة واحدة ، وتخلص من هذا الموكب المهيب الذي هو إلي الرياء والمفاخرة أقرب من أي شيء آخر ؟ ثم كيف يرضي الحاكم بأن يخصص له مثل هذا الموكب بالغ الإسراف