مقدمة
الحمد لله رب العالمين الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين وحجة على الخلائق أجمعين، أرسله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه المتمسكين بسنته المهتدين بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد فإن معرفة السيرة النبوية ودراستها من أهم المهمات لأنه المعلم الأول والقدوة الأكمل في جميع المجالات ، وقد ألف العلماء قديمًا وحديثًا كتبًا كثيرة في السيرة النبوية ما بين مطولات ومختصرات وما بين ذلك وقد لخصت في هذا الموضوع ما تيسر وضمنته كتابي (بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين) ثم أفردت ما يتعلق بهذا الموضوع في رسالة صغيرة لتكون خفيفة المحمل قريبة التناول وزدت عليها ما تيسر من غيرها ونسبت كل قول إلى قائله وذكرت المراجع والفهرس في آخر الرسالة.
وقد اشتملت هذه الرسالة على ذكر نسب النبي الذي هو أعلى الأنساب وأشرفها، وعلى ذكر أخلاقه وفسر هذا الخلق العظيم بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآدابه والعمل به في جميع المجالات كما تضمنت لمحات من حياة الرسول ، وكان في أول الأمر يدعو سرًا حتى أنزل الله عليه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ( فجهر بالدعوة وكان في أول قدومه إلى المدينة مهاجرًا كان يحرس فأنزل الله عليه (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ( فترك الحرس. كما ذكر في هذه الرسالة صفاته التي هي أجمل الصفات، وأكملها وخصائصه التي خص بها دون غيره ومعجزاته التي أعجزت البشر جميعًا، وأعظمها هذا القرآن العظيم، حيث تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله أو بعشر سور. مثله أو بحديث مثله فعجزوا عن ذلك كله كما قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا( [الإسراء: 88] ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السموات العلا ثم إلى سدرة المنتهى حيث كلمة الله تعالى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، ورأى في تلك الليلة الأنبياء والمرسلين، ورأى الجنة والنار ثم نزل إلى بيت المقدس وعاد إلى مكة كل ذلك في ليلة واحدة وذلك من دلائل قدرة الله وعظمته وسعة علمه ورحمته بخلقه، فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك كما أن ذلك من أعظم دلائل نبوته .
ثم ذكرت في هذه الرسالة حكم الاحتفال بهذه الليلة ليلة الإسراء والمعراج حيث لم يثبت تاريخها، ولو ثبت لم يشرع الاحتفال بها حيث لم يحتفل بها الرسول ولا خلفاؤه الراشدون ولا التابعون لهم بإحسان، ولو كان في هذا الاحتفال خير لسبقونا إليه وهم أعلم بالسنة ممن بعدهم، وهكذا يقال في الاحتفال بمولد الرسول وغيره من المواليد والاحتفالات التي ما أنزل الله بها من سلطان ثم ذكرت في هذه الرسالة وجوب الصلاة على النبي ومواطنها وفوائدها وثمراتها. وختمت هذه الرسالة بذكر حقوق النبي والحمد لله رب العالمين و على نبينا محمد.
ذكر نسب النبي ( )
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
هذا هو المتفق عليه، وفيما بعد عدنان إلى آدم خلاف كثير.
وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة.
ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قيل: ثانيه، وقيل: ثالثه، وقيل: ثاني عشره، وقيل غير ذلك.
وليلة ميلاده اضطرب إيوان كسرى حتى سمع صوته وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، وأرضعته حليمة بنت أبي ذئب الهذلية وعندها شق صدره وملئ حكمة وإيمانا بعد أن استخرج حظ الشيطان منه، وأرضعته أيضًا ثوبية الأسلمية جارية أبي لهب، وحضنته أم أيمن بركة الحبشية وكان ورثها من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها زيد بن حارثة.
وتوفي أبوه وهو حمل، وقيل: له شهران، وقيل سبعة وقيل: مات أبوه وله ثمانية وعشرون شهرًا وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، وقيل: ست، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ ثماني سنين وشهرين وعشرة أيام توفي عبد المطلب فوليه عمه أبو طالب ولما بلغ اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام فلما بلغ بصرى رآه بحيرى الراهب فعرفه بصفته فجاءه وأخذ بيده، وقال: هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا ولا يسجدان إلا لنبي وإنا نجده في كتبنا، وقال لأبي طالب: لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود فرده خوفًا عليه منهم ثم خرج مرة ثانية إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها قبل أن يتزوجها فلما قدم الشام: نزل تحت ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب فقال الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة قط إلا نبي وكان ميسرة يقول: إذا كانت الهاجرة واشتد الحر نزل ملكان يظللانه.
ولما رجع من سفره ذلك تزوج خديجة بنت خويلد وعمره خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيام وقيل غير ذلك.
ولما بلغ خمسًا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة ووضع الحجر الأسود بيده.
ولما بلغ أربعين سنة ويومًا ابتعثه الله تبارك وتعالى بشيرًا ونذيرًا وأتاه جبريل بغار حراء فقال: "اقرأ فقال: ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فقال في الثالثة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(".
وكان مبدأ النبوة فيما ذكر يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول ثم حاصره أهل مكة في الشعب، فأقام محصورًا دون الثلاث السنين هو وأهل بيته وخرج من الحصار وله تسع وأربعون سنة وبعد ذلك بثمانية أشهر وإحدى وعشرين يومًا مات عمه أبو طالب وماتت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام.
ولما بلغ خمسين سنة وثلاثة أشهر قدم عليه جن نصيبين فأسلموا.
ولما بلغ إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر أسرى به من بين زمزم والمقام إلى البيت المقدس، ثم أتى بالمعراج فركبه وعرج به إلى السماء وفرضت الصلاة.
ولما بلغ ثلاثًا وخمسين سنة هاجر من مكة إلى المدينة في يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الاثنين، فأقام بها عشر سنين سواء وتوفي ، وفي بعض هذه التواريخ خلاف بين أهل النقل.
(ومن أخلاقه ) سئلت عائشة رضي الله عنها فقالت: كان خلقه القرآن يغضب لغضبه ويرضى لرضاه ولا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلا أن تنتهك حرمات الله فيغضب لله وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، وكان أشجع الناس وأسخاهم وأجودهم ما سئل شيئًا فقال: لا، ولا يبيت في بيته دينار ولا درهم فإن فضل ولم يجد من يأخذه وجاءه الليل لم يرجع إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عامًا فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير ثم يؤثر من قوت أهله حتى ربما احتاج قبل
انقضاء العام.
وكان أصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة وأحلم الناس وأشدهم حياء، بل أشد حياء من العذراء في خدرها خافض الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة.
وكان أكثر الناس تواضعًا يجيب من دعاه من غني أو فقير أو حر أو عبد وأرحم الناس يصغي الإناء للهرة وما يرفعه حتى تروي رحمة لها.
وكان أعف الناس وأشدهم إكرامًا لأصحابه لا يمد رجليه بينهم ويوسع عليهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدم ركبة جليسه، من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه، له رفقاء يحفون به إذا قال انصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره.
يبدأ من لقيه بالسلام ويتجمل لأصحابه ويتفقدهم ويسأل عنهم، فمن مرض عاده ومن غاب دعاه ومن مات استرجع فيه وأتبعه الدعاء ومن كان تخوف أن يكون وجد في نفسه شيئًا انطلق إليه حتى يأتيه في منزله ويخرج إلى بساتين أصحابه ويأكل ضيافاتهم، ويتألف أهل الشرف ويكرم أهل الفضل ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه ويقبل معذرة المعتذر إليه والقوي والضعيف عنده في الحق سواء ولا يدع أحدًا يمشي خلفه ويقول: "خلوا ظهري للملائكة" ولا يدع أحدًا يمشي معه وهو راكب حتى يحمله فإن أبى قال: "تقدمني إلى المكان الذي تريد" يخدم من خدمه وله عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا مشرب ولا ملبس، قال أنس: خدمته عشر سنين فوالله ما صحبته في حضر ولا سفر لأخدمه إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له، وما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا.
وكان في سفر فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله علي ذبحها وقال آخر: علي سلخها وقال آخر عليَّ طبخها فقال : "وعلي جمع الحطب" فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك فقال: "قد علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم فإن الله تبارك وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه" وقام فجمع الحطب.
وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث انتهى به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم حتى يقوم الذي جلس إليه إلا أن يستعجله أمر فيستأذنه.
ولا يقابل أحدًا بما يكره، ولا يجزي السيئة بمثلها بل يعفو ويصفح.
وكان يعود المريض، ويحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم ولا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لملكه، يعظم النعمة وإن قلت لا يذم منها شيئًا فما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وكان يحفظ جاره، ويكرم ضيفه وكان أحسن الناس تبسمًا وأحسنهم بشرًا لا يمضي له وقت في غير عمل لله عز وجل أو فيما لا بد منه، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه قطيعة رحم فيكون أبعد الناس منه يخصف نعله ويرقع ثوبه ويركب الفرس والبغل والحمار ويردف خلفه عبده أو غيره ويمسح وجه فرسه بطرف كمه أو بطرف ردائه.
وكان يحب الفأل ويكره الطيرة وإذا جاءه ما يحب يقول: "الحمد لله رب العالمين" وإذا جاءه ما يكره قال: "الحمد لله على كل حال" وإذا رفع الطعام من بين يديه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا من المسلمين" وأكثر جلوسه مستقبل القبلة ويكثر الذكر ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ويستغفر الله في المجلس الواحد مائة مرة، وكان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وكان يصوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام في كل شهر وعاشوراء وكان يفطر يوم الجمعة. وأكثر صيامه في شعبان.
وكان تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارًا للوحي، وإذا نام نفخ ولا يغط، وإذا رأى في منامه ما يكره قال: "هو الله لا شريك له" وإذا أخذ مضجعه قال: "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك" وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".
وكان لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ويكافئ عليها ولا يتأنق فيما أكل. وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وآتاه الله تبارك وتعالى مفاتيح خزائن الأرض فلم يقبلها واختار الآخر( ) صلى