لطائف قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)
الله.. الله.. الله.. الله.. الله.. الله.. الله..
إن عالم الذر هو عالم الميثاق الأول أو العهد الأول الذي أخذه الله على جميع نسائم البشر من بني آدم عليه السلام على ربوبيته سبحانه ووحدانيته، فأقروا جميعاً بها دون استثناء على الإطلاق..
يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (.) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)
فإنّ الله سبحانه وتعالى لمّا خلق آدم عليه السلام مسح بيمينه على ظهره فخرجت من ظهره جميع نسائم الخلق من ذريته، فألبسها الحق صوراً روحية، وناداهم بعد أن تجلّى لهم جميعا (ألستُ بربكم) فقالوا جميعاً بصوت واحد: بلى.. بلى.. بلى شهدنا، بلى شهدنا.. ولم يتأخر منهم أحد، ولم يعترض منهم أحد، ولم يمتنع منهم أحد..
وإذا ما لاحظنا الكلمات الواردة في الآية الكريمة، نجد أن الحق سبحانه قال: (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) فهو سبحانه قد أخذ الميثاق على جميع بني آدم الذين خرجوا من ظهره، ولكنه أتى بكلمة (ظهورهم) بدلاً من كلمة (ظهره) وكلمة (ذريتهم) بدلاً من كلمة (ذريته) وهذا في اللغة يسمى بدل البعض من الكل، وذلك إشارة أنّ النسائم التي خرجت من ظهر آدم عليه السلام خرجت على شكل متكاثر متناسل، أي أن الصور خرجت من بعضها البعض فصورة الابن خرجت من صورة الأب وهكذا.. حتى يكونوا جميعاً شهداء على بعضهم، ومن هنا طبعت فيهم أنوار التوحيد، وأنوار الفطرة..
والفطرة هي المعرفة الأولى التي نتجت عند سائر الخلق عياناً وشهوداً، فكان لذلك الموقف نور عظيم انطبع فيهم (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).. فهذا هو الميثاق الأول الذي واثقكم به..
ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (كلّ مولود يولد على الفطرة).. فكلّ مولود يولد وهو عارف بالله، مقرّ بوحدانيته، لأنه حديث عهد بربه..
وهنا يأتي سؤال هام ألا وهو أنّ هذا الأمر حدث قبل أن نُخلق، فيكف يقول الله سبحانه (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)؟ وذلك الأمر جوابه أنّ الحق سبحانه جعل نور الفطرة يمتدّ مع الإنسان فيبقى إقراره بالربوبية موجوداً لا ينقطع.. يقول تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)، وقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)..
وهذا دليل أنّ لا أحد يستطيع إنكار الرب سبحانه وتعالى، حتى أولئك الملحدون فإنهم وإن أنكروه بألسنتهم ولكنهم يقرّون بقدرته ووجوده في ضمائرهم..
فالحقّ سبحانه أشهد خلقه على ربوبيته، وإشهاده لهم بهدف جَعْلِ ذلك في نفوسهم مطبوعاً ولهذا قال: (أشهدهم على أنفسهم)، ومن هنا تأتي الحجة عليهم؛ لأنه لو لم يشهدهم على أنفسهم لأنكروا ذلك، ولكنه جعل شهود أنوار ربوبيته من قِبَلِ نفوسهم، فلم يستطيعوا الإنكار لأنّ إقرارهم ما زال في نفوسهم حتى بعد أن خلقهم..
ولاحظ معي قوله تعالى: (ألستُ بربكم؟) وتدبّر كيف أتى لهم بصيغة السؤال المنفي، الذي يحتمل الإقرار أو الإنكار، فلو قال لهم: (أنا ربكم)، لم يكن حينها يتعيّن عليهم الإجابة، ولكن لمّا سألهم فإنه يطلب إجابتهم على سؤاله، وإجابتهم إقرار عليهم، فهم قد أقروا وشهدوا على أنفسهم..
لااله الا الله محمدرسول الله اقرارا وشهادة حق وصدقا ياالله وصل الله علي سيدنا محمد واله وصحبه وسلم في كل لمحة ونفس عدد ما واسعه علم الله