(( قال ابن إسحاق : وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وكان ابن عمها ، وكان نصرانياً قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب ، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه .
فقال ورقة : لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة ، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال- فجعل ورقة يستبطئ الأمر و يقول حتى متى ؟ )) .
قال الحافظ في الفتح :
( خَدِيجَة ) : هِيَ أَوَّل مَنْ تَزَوَّجَهَا النبي صلى الله عليه وسلم ، وَتَزَوَّجَهَا سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ مِنْ مَوْلِده فِي قَوْل الْجُمْهُور ، زَوَّجَهُ إِيَّاهَا أَبُوهَا خُوَيْلِد ؛ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر ، وَقِيلَ : عَمّهَا عَمْرو بْن أَسَد ذَكَرَه الْكَلْبِيّ ؛ وَقِيلَ : أَخُوهَا عَمْرو بْن خُوَيْلِد ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق ، وَكَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَبْل أَنْ يَتَزَوَّج خَدِيجَة قَدْ سَافَرَ فِي مَالهَا مُقَارِضًا إِلَى الشَّام , فَرَأَى مِنْهُ مَيْسَرَة غُلامهَا مَا رَغَّبَهَا فِي تَزَوُّجه .ا.هـ
قال ابن كثير رحمه الله :
((قال ابن إسحاق : و كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف و مال تستأجر الرجال على مالها مضاربة ؛ فلما بلغها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه و عظم أمانته و كرم أخلاقه ، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام و تعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار .
وقالت : ( إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك ) مع غلام لها يقال له ميسرة ، فقبله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها و خرج في مالها ذلك ، و خرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام .
فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة .
فقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟
فقال ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم .
فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي .
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته – يعني تجارته – التي خرج بها ، واشترى ما أراد أن يشتري ؛ ثم أقبل قافلا إلى مكة و معه ميسرة ، فكان ميسرة – فيما يزعمون – إذا كانت الهاجرة و اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس و هو يسير على بعيره ، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا ، و حدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه .
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد اللَّه بها من كرامتها ؛ فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت له – فيما يزعمون – :
(( يا ابن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وسِطَتِكَ في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك )) .
ثم عرضت نفسها عليه ، وكانت أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالاً ، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه ، فلما قالت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه ، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة و السلام )) .ا.هـ
وفي المنتظم لابن الجوزي رحمه الله :
ذكر قصة ميسرة وفيها : ((حتى قدما بصرى من أرض الشام ، فنزلا في ظل شجرة .
فقال نسطور الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ، ثم قال لميسرة أفي عينيه حمرة ؟
فقال : نعم ، لا تفارقه .
قال : هو نبي ، وهو أخر الأنبياء .
ثم باع سلعته ، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ .
فقال له : احلف باللات والعزى .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما حلفت بهما قط ، وإني لأمُرُّ فَأُعرِضُ عنهما .
فقال الرجل : القول قولك .
ثم قال لميسرة : هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم .
وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة ، واشتد الحر يرى ملكين يُظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس فوعى ذلك ميسرة ، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون ، ودخل مكة في ساعة الظهيرة ، وخديجة في عُلية لها فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على بعيره ، وملكان يظلانه ، فأرته نساءها فعجبن لذلك ، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا في تجارتهم ووجههم ، فسرت بذلك ، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال : قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وأخبرها بما قال الراهب نسطور ، وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع .
وكانت خديجة امرأة حازمة جادة شريفة ، مع ما أراد الله من الكرامة والخير ، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا ، وأعظمهم شرفًا وأكثرهم مالاً ، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك ، قد طلبوا ذلك ، وبذلوا الأموال .
فأرسلتني دسيسًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الشام .
فقلت : يا محمد ما يمنعك أن تزوج خديجة ؟
قال : ما بيدي ما أتزوج به .
قلت : فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ..ألا تجيب ؟
قال : فمن هي ؟
قلت :خديجة ، قال وكيف لي بذلك ؟
قال : قلت عليّ .
قال : افعل .
فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا وكذا ، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها ، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته ، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة )) .ا.هـ
وفي أسد الغابة :
(( ولما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمها : محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب يخطب خديجة بنت خويلد هذا الفحل لا يُقدَع أنفه )) .ا.هـ
قال ابن كثير رحمه الله :
(( وروى البيهقي عن ابن عباس :
أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو - أظنه - قال سكران .
ثم قال البيهقي : أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول :
أنا أعلم الناس بتزويجه إياها ، إني كنت له تِرباً وكنت له إلفاً وخدنا ، وإني خرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني فانصرفت إليها ووقف لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فقالت : أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟
قال عمار : فرجعت إليه فأخبرته .
فقال : ( بلى لعمري ) .
فذكرت لها قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فقالت : اغدوا علينا إذا أصبحنا .
فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة و ألبسوا أبا خديجة حلة ، وصفرت لحيته ، وكلمت أخاها فكلم أباه و قد سقي خمراً فذكر له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومكانه وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة ، وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه ، ونام أبوها ثم استيقظ صاحيًا .
فقال : ما هذه الحلة وما هذه الصفرة وهذا الطعام ؟
فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارًا : هذه حلة كساكها محمد بن عبد اللَّه ختنك ، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة .
فأنكر أن يكون زوجه ، وخرج يصيح حتى جاء الحجر ، وخرج بنو هاشم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاؤوه فكلموه .
فقال : أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟
فبرز له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال : إن كنت زوجته فسبيل ذاك و إن لم أكن فعلت فقد زوجته)) .ا.هـ
وروى الإمام أحمد :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ خَدِيجَةَ ، وَكَانَ أَبُوهَا يَرْغَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَصَنَعَتْ طَعَامًا وَشَرَابًا فَدَعَتْ أَبَاهَا وَزُمَرًا مِنْ قُرَيْشٍ ، فَطَعِمُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لأَبِيهَا إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُنِي فَزَوِّجْنِي إِيَّاهُ ، فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ فَخَلَعَتْهُ وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالآبَاءِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ سُكْرُهُ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ مُخَلَّقٌ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ .
فَقَالَ : مَا شَأْنِي مَا هَذَا ؟
قَالَتْ : زَوَّجْتَنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَ : أَنَا أُزَوِّجُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ لا لَعَمْرِي .
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : أَمَا تَسْتَحِي تُرِيدُ أَنْ تُسَفِّهَ نَفْسَكَ عِنْدَ قُرَيْشٍ تُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّكَ كُنْتَ سَكْرَانَ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ ))